مقالات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(12)… آثار مصر ما بعد القرون الوسطي

تعتبر الفترة الممتدة من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر الميلادي فترة حاسمة في تاريخ مصر، حيث شهدت البلاد تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة، كما شهدت أيضاً نهبًا واسع النطاق لآثارها الفريدة. في هذا المقال، سنتناول ظاهرة تهريب الآثار المصرية خلال هذه الفترة، وأسبابها، وطرقها، وآثارها المدمرة على التراث الحضاري المصري.

ازداد الاهتمام الأوروبي بالحضارات القديمة  في تلك الفترة، مما شجع الكثير من المستكشفين والعلماء والمستشرقين على زيارة مصر والبحث عن الآثار. وساهمت الحملات الاستعمارية في المنطقة في زيادة عمليات النهب والتهريب، حيث استغل المستعمرون ضعف الدولة المصرية وسهولة الوصول إلى الآثار. وازداد الطلب على الآثار المصرية في الأسواق الأوروبية، مما شجع تجارة الآثار غير المشروعة؛ مع غياب التشريعات، حيث لم تكن هناك قوانين صارمة لحماية الآثار في مصر خلال هذه الفترة، مما سهل عملية تهريبها. ففي نهاية فترة القرون الوسطي بدأت روح سائدة في أوروبا بين الملوك والنبلاء وخاصة الفرنسيين منهم متلهفة إلى اقتناء كل ما هو طريف وغريب كالمخطوطات القديمة والتحف والمومياوات. وفي عهد الاحتلال العثماني لمصر (1516م-1805م) ازدهر النشاط السياسي في مصر ونشطت الرحلات في القاهرة إلى الأهرام وسقارة وقلعة صلاح الدين ثم ارتياد أسواق القاهرة الشعبية حيث تعرض المومياوات للفرجة أو للبيع وكذلك الأثار كالتمائم والجعارين والبرديات والتي كان يسهل تصريفها في أوروبا وتحقيق مكاسب كبيرة من ورائها.

اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(11).. حال الآثار المصرية في القرون الوسطى

وأخيرا أتي المستشرقون والأثريون والسائحون والمغامرون الأجانب من كل حدب وصوب بحثا عن الآثار والعاديات، وكان كل منهم له هدف. فقد قام البعض بقياس أبعاد الأهرام، واشتري البعض مومياوات، ونقب آخرون في مقابر سقارة وتسللوا إليها وعندما عادوا لبلادهم أخذوا معهم ما وجدوا. وعندما غادر نابليون (نابليون بونابرت الأول ” Napoléon Bonaparte ” أغسطس 1769م- مايو 1821م) مصر بعد فشل حملته العسكرية المعروفة على مصر (1798م- 1801م)، كان معه سجلا ضخما عن مصر القديمة (موسوعة وصف مصر “Description de l’Egypte “) أشعلت حماس أوروبا كلها نحو مصر.

فلما زار الأب “جيرامب” Father “Giramb”) ) مصر سنة 1833م،  قال لمحمد علي باشا والى مصر آئنذاك “لم يكن من يزور مصر يحوز الشرف إلا اذا كان يحمل مومياء في احدي يديه وتمساحا في الأخرى”. والجملة اعتراف ضمني بنهب أثار مصر لسنوات طوال على يد السائحين الأجانب، تحت سمع وبصر حكام مصر لقرون عديدة…. مستغلين ضنك الأهالي الواقعين تحت ضغط الحاجة والفقر والجهل. وفي الواقع انه في زمن الأب “جيرامب” هبت موجة عارمة من التنافس لنهب تراث مصر شملت الجميع من دبلوماسيين ونبلاء وسائحين وتجار – بهدف جمع أكبر عدد من المومياوات وغيرها من الآثار المصرية. في الوقت نفسه كان شامبليون (جون فرانسوا شامبليون ” Jean-François Champollion”23 ديسمبر 1790م- 4 مارس 1832م) وعلماء غيره عاكفون على فك شفرة الأبجدية الهيروغليفية، بينما كان السائحون والمغامرون غارقون إلى أذقانهم في نهب كنوز المدنية التي لا يعرفون عنها إلا اقل القليل.

صحوة أوربا نحو نهب آثار مصر:

في تلك الفترة زادت حركة السياح وكل منهم يعود لبلده حاملا تذكارا مصريا – جعرانا أو تمثالا صغيرا أو تميمة، أما جمع الأثار جديا فكان نادرا ومقصورا على وكلاء الملوك والأغنياء القادرين. أم الطلب على المومياوات فكان كبيرا لدرجة تكفي لشغل وقت القرويين بسقارة في فتح المقابر القديمة وتحطيم الأثار. في تلك الفترة نشطت في أوروبا عمليات تطوير المتاحف القومية والبحث عن أي مقتنيات سواء قومية أو أجنبية.

وتعددت طرق تهريب الآثار، فكان بعض المسؤولون المصريون يتعاونون مع المهربين مقابل رشاوي، مما سهل عملية تهريب الآثار. كما قام العديد من المستكشفين والمهربين بالحفر غير الشرعي في المواقع الأثرية وسرقة الآثار. وكان المهربون يخفون الآثار في حقائب السفر أو داخل شحنات البضائع لتسهيل تهريبها. وقام بعض المهربين بتزوير بعض القطع الأثرية لجعلها تبدو أقدم وأكثر قيمة.

اخترنا لك: الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(10).. آجا ممنون يصمت الى الأبد والمسيحية تبغض الآثار المصرية

وكان هناك آثار ضارة لعملية تهريب الآثار المصرية؛ فقد تسببت عمليات التهريب في فقدان مصر جزءًا كبيرًا من تراثها الحضاري، مما أثر على هويتها الوطنية. وأدت عمليات الحفر غير الشرعي إلى تدمير العديد من المواقع الأثرية. وتم بيع العديد من القطع الأثرية المصرية لمتاحف ومجموعات خاصة في الخارج، مما شوه الرؤية الشاملة لتاريخ الحضارة المصرية.

ولم تترك عمليات تهريب الآثار الحي أو الميت؛ فمثلا كان استخدام المومياوات في الطب معروفا منذ القدم وقد استخدمه العرب في العلاج منذ القرن الحادي عشر الميلادي وذلك باستخدام القطران الموجود في تجاويف الجثث، لذا انتشرت تلك التجارة الرائجة واقبل عليها الأوروبيون خلال الستة قرون التالية لذلك. لذا سوف تكون مقالتنا التالية عن تهريب وتجارة المومياوات المصرية.

 

دكتور قاسم زكى؛

 أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،

عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى