الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(10).. آجا ممنون يصمت الى الأبد والمسيحية تبغض الآثار المصرية

ذكرنا في الحلقة السابقة (رقم 9: تخريب ونهب الآثار المصرية على أيدي الرومان) احتلال الرومان لمصر (عام 32 ق.م) وما آل إليه حال الآثار المصرية بعد احتلالهم وقدومهم كسياح لزيارة الآثار مما تسبب في تخريب وتهريب كثير من الأثار ونقل أجملها لتزيين ميادينهم وحدائقهم مثلما استولوا على المسلات.
فعندما يأتي السائح الروماني إلى الأقصر يهم بمطالعة تمثالي أمنحتب الثالث العملاقين في غرب طيبة، أطلق اليونانيون عليهما تمثالي “آجا ممنون” تماشيا مع الميثولوجيا الإغريقية والتي لا تربطها بالتمثالين أي علاقة. فتمثالا ممنون (Colossi of Memnon) ويعني ذلك “عملاقا ممنون”، وهما عبارة عن تمثالين ضخمين، شُيدا حوالي سنة 1350 ق.م، وهما كل ما تبقى من معبد بُنيّ تخليداً لذكرى الفرعون أمنحتب الثالث الذي حكم مصر خلال الأسرة الثامنة عشر، يقعا في مدينة طيبة الجنائزية، الواقعة غرب نهر النيل من مدينة الأقصر الحالية. يصور التمثالان المتماثلان أمنحتب الثالث جالساً، بينما يداه مبسوطتان على ركبتيه وناظراً تجاه الشرق نحو النهر. وقد نُحتّ شكلين قصيرين على مقدمة العرش إلى جانب ساقيه: هما زوجته “تيي” وأمه “موت إم ويا”. بينما تصور الألواح الجانبية إله النيل “حابي”. صُنعّ التمثالين من كتل لحجر الكوارتزيت الرملي التي استُخرجّت من الجبل الأحمر بالقرب من القاهرة الحالية. يصل ارتفاع كل تمثال إلى 18 متراً ويزن كل منهما 720 طناً، ويبعدان عن بعضهما حوالي 15 متراً.
وبقي التمثالين شاهدين على عظمة معبد أمنحتب الثالث الجنائزي الذي شيده خلفهما، وكانت وظيفتهما الأصلية الوقوف كحارسين عند مدخل المعبد. بعد فترة وجيزة من بناء المعبد دمره زلزال عنيف حوالي 1200 ق.م واختفى من الوجود على عهد الرومان؛ ترك فقط التمثالين الضخمين قائمين عند المدخل. وبقي التمثالان يصارعان عوامل التعرية التي تعصف بهما حتى أتى زلزال مدمر أخر سنة 27 ق.م فخربهما تخريبا شديدا، وبعد ذلك أعادت السلطات الرومانية بناءهما جزئياً.
التمثال يغني:
ورغم ذلك ظل التمثال الشمالي يصدر أصواتنا حزينة غامضة كل صباح، بصورة تجذب السائحين “وهو يشدو”، ولما زار الإمبراطور “هادريان” وزوجته التمثالين عام 130م ظل التمثال صامتا، لكنه تكلم في اليوم الثاني للزيارة. وفى سنة 202م أبى التمثال أن يشدو أمام الإمبراطور “سبتميوس سفيرس”، وكي ينال الإمبراطور رضا التمثال ويشنف أذنيه بسماع صوته، أمر بترميم رأس التمثال وخصره، فكانت النتيجة أن سكت التمثال عن البواح بأي شيء وإلى الأبد. وفى حين ارجع “استرابو” هذا النواح الحزين للتمثال إلى ألاعيب الكهنة، لكن البعض يعتقد أن هذا الصوت الصادر من التمثال هي حقيقة طبيعية علمية فربما يكون سببها تمدد الحجارة بالحرارة في الصباح وتبخر قطرات الندى، لكن مع صمت دام قرابة 18 قرنا من الزمان، لا يعرف سبب هذا الصوت، ولعله أصبح دليلا على تخريب الأثار المصرية على أيدي الرومان.
ويقول “بريان م. فاجان” (Brian Murray Fagan؛ مواليد 1936م) في مؤلفة الرائع (The Rape of the Nile) والذي نشر عام 1975م والمترجم إلى العربية بعنوان (نهب أثار وادي النيل ودور لصوص المقابر) “لا يمكننا تحديد ما أتلفه الرومان من أثار مصر، فليس هناك ما يدل على وجود سوق رائجة لتجارة الأثار في ذلك الوقت، وليس هناك ما يثبت اعتقادهم بمزايا المومياوات الطبية، أما ما استهوى الرومان حقا فهي المسلات الجرانيتية برشاقتها ونقوشها الهيروغليفية”. وقد كتبنا بالتفصيل في موضوع المسلات سابقا.
الآثار المصرية أصبحت مجرد أوثان؟
من جانب أخر، انتشرت المسيحية في مدن مصر في القرن الأول الميلادي على يد القديس مرقص، ولكنها انتشرت في كامل ربوع مصر بعد القرن الرابع الميلادي حين تُرجم الإنجيل إلى القبطية. ومع دخول الديانة المسيحية إلى مصر، ورفض أقباط مصر لكل العبادات القديمة الوثنية، واعتبار نقوش المعابد من الشرور التي تجر إلى الخطيئة؛ تم تدمير كثير من الأثار وتخريبها، واعتبرت الديانة المصرية القديمة ونقوشها على جدران الحوائط نوع من الكفر البواح، مما أدي إلى التخريب المتعمد لتلك النقوش والأثار كما حدث في السيرابيوم بمنف عام 397م. وكان الإمبراطور “ثيودوسيوس الأول (Theodosius I م؛ 347م-395م)؛ قد تبنى المسيحية في عام 380م، ثم جعل منها دينا وحيدا للإمبراطورية في العام 391م. ثم أصدر مرسوما عام 391م قضى بإغلاق جميع المعابد الوثنية في جميع أنحاء الإمبراطورية. ورغم انه لم يكن في مصر آنذاك إلا حفنة قليلة من الذين كانوا لا يزالون يعبدون آلهة مصر القديمة، فان إغلاق المعابد الفرعونية أدى إلى اضمحلال الثقافة الهيروغليفية ومعها معرفة قراءة النصوص القديمة التي كانت لا تزال متوارثة بالتقليد. ثم اكتملت الحلقة حين تولى الإمبراطور الروماني جستنيان الحكم (527م-565م)، وبحجة مؤازر مسيحيي مصر بإغلاق معبد إيزيس بفيلة (أخر قلاع الهيروغليفية في مصر) وقام بنقل تماثيله إلى القسطنطينية!!، وبذا أصبح مجمع الآلهة الفرعونية غير قانوني. وحين اختلف مذهب أقباط مصر مع مذهب الدولة البيزنطية واضطهد الأقباط، فاتخذوا بعض المعابد كأديرة للعبادة أو للهروب من بطش الرومان. بل إن معظم الأثار الفرعونية الظاهرة فوق الأرض تم تدميرها في ذلك العهد، واستخدمت أحجارها في البناء!! أما الأثار التي لم تمسها يد البشر فقد تكفلت بها عوامل التعرية من دفن وإتلاف.
أما في طيبة فقد استمر لصوص المقابر في السلب والنهب والتخريب دون وازع من ضمير أو رادع من قانون، وهكذا أصبحت أثار مصر تنعي من بناها. ودخلت مصر في عصر سبات عميق انقطعت فيه صلاتها بأوروبا زمنا طويلا.
دكتور قاسم زكى؛
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
وعضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر