مقالات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية ( 49) ..”جريفيل تشيستر ” (وعظٌ في الكنيسة… ونهبٌ في وادي النيل!)

أثناء بحثي عمن شارك في تهريب الآثار المصرية للخارج (وهم كثر) وغالبيتهم أصحاب أسماء رنانة في سماء علم المصريات، بل بعضهم تولى مناصب هامة في دواليب العمل في مصلحة الآثار المصرية. قابلت شخصية غريبة الأطوار يدعي “جريفيل تشيستر” (Greville Chester، 1830م-1892م). وحاولت البحث عما قام به، فدوما أجده في الظل، لكنه كان ممول لكثير من السرقات والتهريبات. لذا ذهبت لمصادر متعددة للتعرف عليه وكنه علاقته بالآثار المصرية، فعثرت على تراجم عديدة له وأبحاث منشورة عنه، وخاصة من خلال المتاحف العالمية البريطانية والتي تحتفظ بآلاف من قطع الآثار المصرية والتي ساهم في تهريبها للخارج.

جريفيل جون تشيستر، خريج جامعة أكسفورد ورجل دين مُعَرَّب، كرس النصف الثاني من حياته للسفر والاستكشاف في مصر وبلاد الشام، حيث جمع القطع الأثرية للمتاحف البريطانية ومؤسسات أخرى. قاده شغفه بجامعة أكسفورد إلى أن يصبح متبرعاً بارزاً لمتحف أشموليان The Ashmolean Museum)) ، بالإضافة إلى مشاركته الفعّالة في الحوار حول مستقبل المتحف وتعليم علم الآثار داخل الجامعة.

من رجل دين إلى جامع آثار

يذكر المتحف البريطاني (الذي يحوي أكثر من 50 آلف قطعة أثار مصرية): أنه القس جريفيل جون تشيستر (وهو أيضا اسمه الأساسي)، هو مؤلف وشاعر؛ ورجل دين ومسؤول ديني؛ وجامع تراث وأثار؛ بريطاني. ولد في دنتون، نورفولك، في 25 أكتوبر 1830م-وتوفى في 23 مايو 1892م. تلقى تعليمه الخاص ثم حصل على شهادة من كلية باليول، أكسفورد. عمل قسيسًا في كريك، يوركشاير؛ ولاحقًا في فارندش. ثم أصبح مسؤولاً عن كنيسة القديس “جود” (St. Jude’s) في مورفيلد، شيفيلد، لكنه اضطر إلى التقاعد في عام 1865م بسبب سوء حالته الصحية وهو في الخامسة والثلاثين من عمره.  ونظرا لحالته الصحية تلك كان يمضي الشتاء في مصر لسنوات عديدة، وجمع العديد من الآثار في رحلاته السنوية، بما في ذلك بعض القطع الرئيسية. لم يقم باقتناء أشياء للمتحف البريطاني فحسب، بل وأيضًا لمتحف أشموليان في مدينة أكسفورد البريطانية، ومتحف “فيتز ويليام” ومتحف “فيكتوريا وألبرت”. كان صديقًا شخصيًا للسير ويليام فلندرز بيتري. تعاون مع صندوق استكشاف فلسطين، وكان له دور هام في نقل متحف أشموليان من شارع برود إلى موقعه الحالي في شارع بومونت. قدم تشيستر مجموعة صغيرة من العناصر الأثرية من منطقة البحر الكاريبي إلى المتحف البريطاني. أكثر من 600 قطعة أخرى من الأشياء التي كان يملكها جاءت من طرق أخرى، العديد منها تم التبرع بها.  وكان مؤلف للعديد من المقالات العلمية والخطب.

متحف “فيتزويليام”

بينما يذكر متحف “فيتزويليام” (Fitzwilliam Museum، شارع ترامبنجتون، كامبريدج، المملكة المتحدة)، والذي يضم أكثر من 16 ألف قطعة آثار مصرية. تذكر صفحات المتحف أن جريفيل تشيستر، قد رُسِّم كاهنًا، وكان، مثل العديد من رجال الدين، مهتمًا كثيرًا بالعديد من المجالات العلمية من التاريخ الطبيعي إلى علم الآثار، بما في ذلك علم المصريات. وكان يسافر إلى الخارج كل شتاء تقريبًا، وكانت مصر وجهة مفضلة له. وهناك أصبح صديقًا للمُنقِّب المؤثر السير فليندرز بيتري (حلقة رقم 20 من سلسلتنا هذه)، الذي التقى به لأول مرة في مصر عام 1881م، فيما أشار إليه جريفيل تشيستر بأنها زيارته الثامنة والثلاثين لمصر، وأن أول زيارة لمصر كانت عام 1864م-1865م . كانت الأقصر بمناخها الذي لا يضاهى بالتأكيد واحدة من نقاط الارتكاز المنتظمة لرجل كان يخرج في الأصل من أجل صحته (وقد مات بالفعل من الربو عام 1892م)، وكانت إقامته الدائمة في فندق الأقصر حيث يلتقي بتجار الآثار والمهربين. لكن رحلاته تلك في البحر الأبيض المتوسط ​​قطعتها جولة مطولة لأكثر من عامين إلى جزر الهند الغربية وأمريكا.

على الرغم من أن جريفيل تشيستر كتب العديد من المقالات الأثرية، إلا أن دوره كجامع للآثار هو ما يُذكَر عنه بشكل أساسي: فقد كان لديه معرفة كبيرة بالآثار المصرية وكيفية اكتشاف الصفقات الجيدة. أما بالنسبة لتجارته المنتظمة مع التجار، فقد ظهرت في مذكرات معاصريه، دون ربطها بوجهة مشترياته. يظهر هذا بشكل واضح في مذكرات السير “إرنست واليس بادج” من المتحف البريطاني (حلقة رقم 19 من سلستنا هذه)؛ حيث كان بادج هو المستفيد الأكبر من أنشطة جمع التحف بواسطة تشيستر. هكذا يقول بادج، ففي عودته إلى إنجلترا من رحلته الأولى قادما من مصر، وجد جريفيل أن أمناء أقسام الآثار في بريطانيا العظمى يرغبون في شراء معظم مقتنياته، فجعل بيعها أمرًا ملائمًا، فحقق ربحًا ضئيلًا من هذه الصفقة. وفي كل عام كان يبيع أكثر من العام السابق، وفي كل عام كان الأمناء يزيدون من مشترياتهم. وهكذا، أصبح تشيستر مصدرًا للإمدادات الدائمة لمتاحف بريطانيا، وخاصة بالنسبة للمجموعة المصرية، فقد كان ذوقه وحكمه جيدًا.

اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية ( 48) ..فلندرز بيتري (عبقري التنقيب وسارق الحضارة؟)

أساليب عجيبة في تهريب الآثار

كان الرجل يتجول في قرى صعيد مصر وهو ينادي على أي أحدٍ يرغب في بيع خرز أو أي أنتيكات أخرى، لقد ملأ العديد من حقائب سفره بمجموعاته، وكان العجيب كيف يتمكن من تمرير كنوزه عبر منافذ الجمارك في مصر وتركيا واليونان، فقد دخل في عملًياتٍ مختلفة مع ضباط الجمارك في كل ميناء، وحيرهم من خلال التظاهر بالجهل باللغة والاستخدام الحكيم للبقشيش (الرشوة)، لم يفهم أصدقاؤه أبدا كيف تمكن من إقناع المسئولين بأن حقائبه الجلدية الثقيلة لا تحتوي إلا على الفخار والتماثيل البرونزية وملًابس يرتديها، بينما كانت مليئة باللوحات الحجرية وحتى أجزاء من التوابيت.

كان تشيستر أحد أكثر المساعدين نشاطًا في شراء الأشياء من الخارج للمتحف البريطاني والعديد من المتاحف الأخرى، بما في ذلك متحف “فيتزويليام”، الذي تلقى منه 175 جعرانا في عام 1886م وأكثر من 280 قطعة أثرية صغيرة أخرى في عام 1891م. والقطة المحنطة من أواخر العصر الروماني، والوعاء المرسوم من عصر ما قبل الأسرات، هي أمثلة لبعض الأشياء الكثيرة التي قدمها للمتحف.

لم يزود عمله المتاحف بمئات القطع الأثرية فحسب، بل والأهم من ذلك، أن جريفيل تشيستر استغرق الوقت لتسجيل مصدر العديد من العناصر، وهو نشاط لم يكن يقوم به سوى القليل في هذه الفترة قبل ظهور الحفريات الجادة. أعجب بيتري بهذا الاهتمام الدقيق بالتفاصيل، وصنع رفًا خاصًا من الكتب كنصب تذكاري له في مكتبة إدواردز في جامعة كلية لندن.

توفي بسبب الذبحة الصدرية في لندن في 23 مايو 1892م ودُفن في مقبرة “كينسال جرين”، وفي النهاية، كان القائد “الميت والغامض ” لتعبئة متاحف بريطانيا بالآثار المصرية المهربة.

ويحضرني سؤال (ربما يكون سؤال ساذج)، ما الذي يدفع رجل دين أوروبي للقدوم للشرق، وبدلا من أن يقوم بالتبشير (كما هو متوقع)، يتحول الي مهرب آثار كبير ويمكث سنوات في هذا العمل، بل تحتفي به المراكز العلمية الأوربية؟

 د. قاسم زكي
 أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى