مقالات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية ( 48) ..فلندرز بيتري (عبقري التنقيب وسارق الحضارة؟)

إنه العالم الأثري سير “وليام ماثيو فلندرز پيتري” (William Matthew Flinders Petrie، 1853م –1942م)، عالم المصريات يهودي إنجليزي ورائد منهاج منظم في علم الآثار ومن أهم علماء الآثار الذين قدموا مساهمات كبيرة في علم الآثار، ومع ذلك، فإن اسمه يرتبط أيضًا بانتقادات لاذعة بسبب دوره في تهريب الآثار المصرية بكميات هائلة  إلى بريطانيا.

حياة بترى وهبوطه إلى مصر:

ولد “فلندرز” في أسرة تحب الأسفار والبحث العلمي، مما مميزه عمن سبقوه من المستكشفين. ولم يتلقى تعليما نظاميا قط في حياته، إنما تتلمذ على يد والده خاصة في علمي المساحة والهندسة، أيضا والدته (آن) علمته اللغات الفرنسية والعبرية واللاتينية واليونانية. وشارك مع أبيه في أجراء البحوث، وكانا لديهما اهتمام عظيم بأهرامات الجيزة واتفقا على القيام برحلة إلى مصر. وفى نوفمبر 1880م سبق “بترى” ذو 27 ربيعا أباه إلى مصر، الذي لم يلحق به. وشرع فلندرز مباشرة في العمل الأثري في الأهرام وبدأت سمعته تصل لكبار رواد الأثريين في مصر وخاصة لاتباعه منهج جديد ودقيق. ونجح بيترى في مسح الهرم بكفاءة عالية فاق كل من سبقوه مما آهله لتلقى الدعم المالي من “جمعية استكشاف مصر”.

إنجازات غير مسبوقة في مصر:

يعود له الفضل في اكتشاف لوحة مرنبتاح والمعروفة بلوحة النصر، أول قطعة اثريه يذكر فيها شعب بنى إسرائيل، والتي سميت “لوحة النصر للفرعون مرنبتاح” بينما كان يطلق عليها البعض (لوحة بنى إسرائيل)، اللوحة تذكر انتصارات الملك في بلاد كنعان (الشام). وقد اكتشفها “بيتري” فى معبد مرنبتاح الجنائزي في طيبة عام 1896م.  توجد الآن في المتحف المصري بالقاهرة. البعض يشكك في صحة ترجمة بيتري لهذه اللوحة.

وعمل في أماكن كثيرة في مصر مثل أبيدوس وتل العمارنة والأقصر وأسوان وتانيس ونقراطيس ونقادة وسيناء، كما قام بالحفائر في فلسطين. ويعد متحفه (متحف بيتري) التابع لكلية لندن الجامعية رابع أكبر متحف يضم آثار مصرية في العالم (به أكثر من 80 ألف قطعة أثرية مصرية وسودانية). لم تكن هناك قوانين دولية صارمة تحكم تجارة الآثار، وكان من الشائع أن يقوم علماء الآثار بنقل القطع الأثرية التي يكتشفونها إلى بلدانهم.

وفى البدأ قد راعه كم التخريب الذي يجرى في آثار مصر، وحتى على يد مارييت باشا مدير عام مصلحة الأثار المصرية آنذاك، وأما النهب والسلب فكانا على أشدهما. وبدأ بيترى حفائره وحقق إنجازاته في أماكن عديدة بدأها في شمال شرق مصر حيث مدينة “تانيس” (بمحافظة الشرقية) ثم في غرب الدلتا “نوقراطيس” (بمحافظة البحيرة) كلتاهما كانتا غنيتين بالخزف الإغريقي، ووصلت حفائره حتى الأقصر وأسوان جنوبا. وكان يتابع عمال الحفر بنفسه وصمم لهم ترتيب مميز للعمل للحفاظ على المكتشفات. وحصل من حفائره على نتائج مميزة، منها كشف جزء من معبد الفرعون “بسويسنس الأول” (الأسرة 21)، وأيضا كثير من الفخار وصناديق البردي. وللأسف أرسل الكثير مما اكتشفه منها إلى إنجلترا لتباع وتعرض في معهد الأثار الملكية بلندن. وكان متعاونا مع الأنسة “أميليا أدواردز” في النشر عن حفائره الناجحة بمصر. في عام 1887م ترأس بعثة كشفية في الفيوم للعمل في هرم هوارة ثم هرم اللاهون، كما اكتشف مقابر ملكية هامة في أبيدوس بسوهاج، وتل العمارنة بالمنيا.

اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية ( 47) ..واليس بادج (كاهن المتحف البريطاني… وسارق مقابر المصريين!)

وقد نجح في إقامة معرض في الجناح المصري في ميدان بيكاديللى، وقد امه الكثير للزيارة ورفع من مكانة بيترى بين قامات أشهر الأثريين العالميين. وكان هو من المؤمنين بضرورة استيفاء السجلات والوصف لكل عملية تنقيب وحفر واستكشاف، ثم النشر، وكان ينتقد أسلوب مارييت، والذي كان لا يعير اهتماما لمتابعة العمال ولا بالتسجيل ولا بالنشر العلمي الجيد للمكتشفات، برغم ما حققه الأخير لمصر من إنجازات أخرى مثل إنشاء المتحف المصري ببولاق.

تأريخ تتابعي للحضارة المصرية وما قبل التاريخ:

ساهم بيتري في وضع تأريخ للحضارة المصرية، بل وضع تاريخ لما هو قبل التاريخ (أي قبل ظهور الكتابة وبدأ تسجيل التاريخ المصري القديم والمحدد له 3200 ق.م). حيث وجد منطقة غنية بالآثار التي تنتمي إلى عصر ما قبل الأسرات، فدرس تلك الحضارة جيدا وأطلق عليها حضارة نقادة (نقادة “1” ونقادة “2أ” ونقادة “2ب” على التوالي).

المدرسة العلمية لبيترى:

لبيترى عديد من التلاميذ الذين تعلموا على يديه وسجلوا إنجازات أثرية هامة في علم الأثار والمصريات، من بينهم “هيوارد كارتر”، الذي سجل اهم اكتشاف أثرى في القرن العشرين حين توصل في 4 نوفمبر عام 1922م إلى اكتشاف مقبرة الفرعون الذهبي “توت عنخ أمون” بوادي الملوك بالقرنة. ومن تلامذته ذائعي الصيت أيضا “آرثر جاردنب” رفيقه في نقراطيس ، و”آلان جاردنر ” صاحب كتاب “قواعد اللغة المصرية القديمة؛ و”جى برانتون” مكتشف كنز اللاهون وبعض مقابر وقرى عصر ما قبل الأسرات. هذا بجانب تلميذته العظيمة “جرترود كاتوين طومسون” واكتشافاتها المُبَرَّزة في مزارع منخفض الفيوم والواحات الخارجة.

وقد دخل بيترى السلك الجامعي من أوسع أبوابه، وذلك لإنجازاته التاريخية، فعلى الرغم من عدم حصوله على اى درجة علمية، إلا أنه عين أستاذًا لعلم المصريات في كلية لندن الجامعية، في العام 1892م، وعمل في هذا المنصب حتى عام 1933م. وقام هو بتأسيس معهد بحوث المصريات في عام 1894م، والذي أصبح في عام 1905 “المدرسة البريطانية لعلم الآثار”.

اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (46): مارييت باشا (لص الآثار الذي أنقذ آثار مصر من اللصوص!)

كان بيترى نشيطا وسريع في الإنجاز، ودقيق في التنفيذ وحريصا في التسجيل وواضحا في النشر، يُعتبر بيتري من أوائل علماء الآثار الذين اعتمدوا على الطرق العلمية في التنقيب والتحليل، مما ساهم في تطوير علم المصريات بشكل كبير. وكان غزير الإنتاج فيصدر كل سنة كتابا على الأقل بالإضافة إلى محاضراته الجامعية والعامة وحلقات البحث في مقر عمله بجامعة لندن. وهكذا أمضي 42 عاما في الكشوف. وقد حقق بيترى من النتائج أكثر ما حقق سابقوه أو لاحقوه.  ورغم ذلك (للأسف) كان يجد نفسه مضطرا لبيع الأثار التي يجمعها إلى متاحف أوروبا ليمول استكشافاته. ومع كل تلك المزايا التي سردناه أعلاه، إلا أنه يقال إن بيترى كان ضيق الصدر، حاد الطباع لا يعبا بشخص ولا بمركز من يجادله، وكان كثيرا لا يسلم مجادلوه من حدة لسانه. وعابه أيضا انه لم يهتم كثيرا بالاطلاع على مؤلفات معاصريه مهما كانت قيمتها، وكان دائما يظن نفسه على صواب وان الحق معه، وهذا يتعارض مع الآراء والنقاشات العلمية خاصة في مجال الأثار.

خاتمة بيترى بدون رأس:

بعد تقاعد بيترى عام 1933م، انتقل بصفة دائمة إلى القدس، حيث عاش مع زوجته وعمل في المدرسة البريطانية لعلم الآثار، ثم عمل مؤقتاً في المدرسة الأمريكية للأبحاث الشرقية. وتوفى في مدينة القدس في يوم 28 يوليو1942م، عن عمر يناهز 89 عاما.

ومن الشيء الطريف، أن بيتري رتب قبل وفاته، أن يتبرع برأسه للعلم، وبالتحديد للكلية الملكية للجراحين في لندن، بحيث يمكن دراستها لقدرتها الفكرية العالية. كان بيتري بلا شك متأثراً باهتمامه بتحسين النسل. ومع ذلك، ونظرا لظروف الحرب العالمية الثانية التي كانت مستمرة حتى عام 1942م، تأخر نقل رأسه المقطوع من القدس إلى لندن، وحين وصلت تم تخزينها في وعاء زجاجي في الطابق الأرضي، ولكن لسوء الحظ فقدت علامة الوعاء وصُعب التعرف لمن تلك الرأس. بينما تم دفن جثته ناقصة الراس في المقبرة البروتستانتية على جبل. صهيون بالقدس. قيل انه تم التعرف على رأسه لاحقا.

 د. قاسم زكي

 أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى