الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(8).. مسلات مصرية هدايا في باريس ولندن ونيويورك

ذكرنا في الحلقتين السابقتين (رقم 7 أ & 7 ب: مسلات مصرية في ميادين أوربية وأمريكية) أن مسلسل تهريب المسلات المصرية للخارج استمر منذ قرون ما قبل الميلاد وحتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وكان في مصر ما لا يقل عن مئة مسلة لم يتبق منها بمصر حتى اليوم سوى 13 مسلة (سليمة ومعطوبة). وركزنا حديثنا آئنذاك على مسلات هُربت عنوة في قرون ما قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي، وكان نصيب الأسد في تهريب تلك المسلات الى روما وبيزنطة عاصمتا الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية، حيث فتن أباطرتهما بجمال المسلات المصرية ورشاقتها فسحبوها واحدة تلو الأخرى حتى أكملوا 13 مسلة مصرية منتصبة في إيطاليا يفوق ما بقي منتصبا في ارض مصر المحروسة (11 فقط).
ربما لنستكمل موضوع تهريب المسلات المصرية نحتاج للقفز خطوات واسعة في سنوات عمر التاريخ لنكمل مأساة تهريب المسلات طالما فتحنا هذا الموضوع وتحدثنا عما تم فيما قبل الميلاد والعقود الأولى بعد الميلاد. ولنا الآن أن نذهب للعصر الحديث. فقد لوحظ أن الكثير من الأثار المصرية خرج كهدايا شخصية من ملوك مصر ورؤسائها: مثل محمد علي باشا، وحفيده الخديوي إسماعيل وتوفيق والملك فاروق، وبعض رؤساء الجمهورية فيما بعد. فمثلا أهدى محمد علي مسلة مصرية كاملة، هي مسلة معبد الأقصر، والتي تعرف بـ “مسلة الكونكورد” الشهيرة، إلى ملك فرنسا “لويس فليب” بناءا على توصية شامبليون، آنذاك.
تجارة الآثار
فمنذ أن وصل محمد علي باشا إلى حكم مصر، وبدأ تأسيس الدولة الحديثة، انتهج أنظمةً لم تكن موجودة من قبل، وعلى رأسها تجارة الأثار، فبعد أن استشرت تلك الظاهرة، أعتزم الباشا مقابلتها بقانون يجرمها ويعاقب فاعلها، وأولى بالآثار بعض الاهتمام، كوسيلة فقط لتثبيت أركان حكمة وأسرته من بعده غير أن هناك ملفاً منسياً في الأسرة العلوية وهو الأثار التي ضاعت وتحديداً “المسلات”. فقد أضاع حكام أسرة محمد علي ثلاث مسلات على سبيل الهدايا، ليست تلك الثلاث اللاتي ضعنا من مصر، بل هناك غيرهم الكثير في عصور متفاوتة أُخِذَت من مصر كما ذكرنا أنفا.
كانت المسلة الأولى التي أخرجتها الأسرة العلوية هي مسلة باريس، الموجودة في ساحة الكونكورد، وهي مسلة الملك رمسيس الثاني التي كانت موجودة أمام معبد الأقصر مع قرينتها الباقية هناك، أهداها محمد على باشا إلى فرنسا عام 1829م. وتم نقل هذه المسلة إلى لفرنسا عام 1833م والتي كان عمرها في ذاك الوقت حوالي 3300 عام. وحين وصولها، أمر ملك فرنسا “لويس فليب” بنصبها في الساحة المعروفة الآن بميدان الكونكورد بالعاصمة الفرنسية باريس. وفى أكتوبر من عام 1839م أقام المهندس” ليباس” المسلة بميدان الكنوكورد وسط حفل صاخب مهيب حضره مائتي آلف فرنسي. هذه المسلة مصنوعة من الجرانيت الوردي يبلغ ارتفاعها 22.55 متر، ووزنها حوالي 227 طنا. كما توجد في فرنسا ثلاث مسلات أخرى بخلاف هذه المسلة لكنهم أصغر حجما منها ما أخذه نابليون بونابرت معه الى فرنسا يعد فشكل حملته على مصر (1798م-1801م).
ورحلة مسلة (الأقصر/الكونكورد) من الأقصر إلى ساحة ميدان الكونكورد في باريس، لقيت العديد من الصعوبات، وجرت على أربع مراحل بدأت ببناء سفينة ضخمة لنقل المسلة من النيل إلى البحر المتوسط وحتى نهر السين، وتم بناء تلك السفينة “الأقصر” وغادرت مدينة طولون في عام 1831م، ثم رست السفينة عائدة بحمولتها في 23 ديسمبر 1833م، وذلك بعد سنتين و9 أشهر من إبحارها من طولون.
أما المسلة الثانية فهي مسلة لندن على ضفاف نهر التايمز في لندن العاصمة البريطانية، وهي المسلة التي أهداها” محمد علي باشا أيضا تكريماً لبريطانيا عام 1819م، وقد تعطل نقلها فترة طويلة، وظلت المسلة بالإسكندرية، وفى عام 1875م اجتمع القنصل الإنجليزي بالخديوي إسماعيل وطلب السماح بنقل المسلة، فرحب الخديوي، وأوضح أنه لا يمانع في أمر أصدره جده محمد على باشا. وفى عام 1877م اشترى ثرى يوناني قطعة الأرض التي بها المسلة فهدد بتفكيك المسلة لإخلاء الأرض مما استدعى القنصل الإنجليزي في التعجيل في نقلها فعليا عام 1878م وتم إقامتها على نهر التايمز في 13 سبتمبر 1878م.
مسلة نيويورك
أما المسلة الثالثة، فلها قصة طريفة، فيمكن أن يقال عنها (مسلة نيويورك) أنها مسلة “تغفيل الخديوي إسماعيل” فبريطانيا وفرنسا أخذتا حصتهما، فكيف لأمريكا لا تكون مثلهم. فكان دور “ويليام هنري هربرت”، أحد الصحفيين الأمريكيين الذي قال سنة 1869م أن الخديوي إسماعيل وعده بأن يهدي الشعب الأمريكي المسلة الموجودة في الإسكندرية، ونشرت الجريدة خبرا يفيد بأن المسلة سيتم نقلها لنيويورك وسيقوم المقاول الذي أسس مكان مسلة لندن، بتولي مهمة نقل مسلة الإسكندرية.
وعلى الرغم من تكذيب المقاول، لحقيقة الخبر، لكن أمريكا خاطبت مصر رسمياً بالمسلة فوافق الخديوي إسماعيل على نقلها لأنها كما زعم ضرورة حضارية للشعب الأمريكي، وبعد سنوات مُنحت المسلة رسمياً بخطاب موقع من الخديوي توفيق للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1879م، وقد استغرقت رحلة نقل المسلة في سفينة مجهزة عبر المتوسط والأطلسي حوالي أربعة أشهر، ثم من ضفة “نهر هدسون” مروراً بجزيرة “ستاتون” ثم إلى مقرها الأخير حديقة “سنترال بارك” أكبر حدائق منهاتن بنيويورك.
بعد أن فرغنا من قصة نهب وإهداء المسلات المصرية وخروجها الى بلاد أجنبية، موعدنا في الحلقة القادمة أن نرتد لما قبل الميلاد، لنتابع ما حدث من نهب للأثار المصرية.
دكتور قاسم زكى؛
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
وعضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر