الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية ( 53) .. تابوت منكاورع: سرقة ملكية انتهت في قاع المتوسط

لم تكن سرقة و تهريب الآثار المصرية مجرد حوادث متفرقة أو تصرفات فردية عابرة، بل هي صفحات متواصلة من تاريخ طويل من النهب الاستعماري. ومن بين أكثر القصص مأساوية ودرامية تلك التي ارتبطت بملك فرعوني عظيم هو منكاورع، باني الهرم الثالث في الجيزة، ذلك الهرم الأصغر حجماً من هرمي خوفو وخفرع، لكنه لا يقل عنهما شأناً ورمزية. فقد كان تابوته الحجري تحفة معمارية منحوتة من البازلت الصلب، ويمثل قطعة فنية نادرة من التراث الملكي المصري القديم. لكن هذه القطعة الثمينة لم تعرف الاستقرار، إذ خرجت من مصر في ظروف غامضة، وانتهت مأساويًا في أعماق البحر المتوسط.
منكاورع وهرمه العظيم
منكاورع هو الملك الرابع في الأسرة الرابعة، حكم مصر حوالي عام 2490 ق.م. عُرف بين معاصريه بالعدل والرحمة مقارنةً بمن سبقوه، حتى أن النصوص القديمة وصفت حكمه بأنه عهد سلام ورخاء. شيّد هرمه في الجيزة ليكون مدفنه الأبدي، مكملاً بذلك ثلاثية الأهرام الشهيرة. وقد اختار أن يبني هرمه من أحجار الجرانيت والطباشير، ليبدو أكثر تمايزًا عن هرمَيْ أبيه وجده.
داخل هذا الهرم وُضع التابوت الملكي، وهو تابوت من البازلت الأسود الصلب، محفور بزخارف هندسية ونقوش تحاكي واجهات القصور المصرية القديمة. كان التابوت نفسه بمثابة لوحة فنية توثق قوة الفن المصري وقدرته على تسخير الحجر الصلد في خدمة العقيدة الجنائزية.
اكتشاف التابوت ونقله
في مطلع القرن التاسع عشر، ومع موجة الاستكشافات الأوروبية في مصر، قاد المستكشف البريطاني ريتشارد ويليام فيس (Richard William Vyse) حملات تنقيب في منطقة أهرامات الجيزة بين عامي 1837–1838م. وخلال هذه التنقيبات، دخل إلى هرم منكاورع ووجد التابوت الحجري في مكانه الأصلي.
لكن، وبدلاً من أن يترك هذا الأثر النفيس في موضعه الطبيعي أو أن يسجّله كإرث حضاري مصري، قرر نقله إلى بريطانيا. وهكذا جرى تحميل التابوت الضخم على متن السفينة البريطانية بياتريس (Beatrice) عام 1838م، في طريقها إلى لندن ليُعرض في المتحف البريطاني، كغيره من آلاف القطع التي نُهبت في تلك الفترة.
الكارثة في البحر
لكن الرياح لم تَجرِ بما اشتهت سفن النهب. فقد غرقت السفينة “بياتريس” وهي في عرض البحر المتوسط بالقرب من سواحل مالطا. ابتلع البحر التابوت الملكي ولم يُعثر عليه حتى اليوم. بذلك، لم يَسلم التابوت لمصر، ولم يستفد منه المتحف البريطاني، وإنما ضاع إلى الأبد في قاع البحر.
هذا الغرق المأساوي يعكس مفارقة عجيبة: لقد أنقذ البحر جزءاً من التراث المصري من العرض في قاعات الغرب، لكن في الوقت ذاته حرم الأجيال من مشاهدته أو دراسته بشكل مباشر. وكأن التابوت قد اختار أن يدفن نفسه في أعماق المتوسط، بديلاً عن الاغتراب في أرضٍ بعيدة.
ما تبقّى من الدفن الملكي
رغم ضياع التابوت الحجري، نجح فيس في العثور على تابوت خشبي ثانوي كان موضوعاً داخل غرفة الدفن، احتوى على بقايا عظام آدميّة. نقل هذا التابوت إلى المتحف البريطاني حيث ما يزال معروضاً حتى اليوم، وهو يحمل اسم منكاورع. غير أن الدراسات الحديثة أثبتت أن العظام تعود إلى عصر متأخر جداً، ربما الأسرة 26 (حوالي القرن السادس ق.م)، أي بعد منكاورع بأكثر من ألفي عام. وهذا يكشف أن الهرم تعرض لإعادة استخدام جنائزي في عصور لاحقة.
أما التابوت الأصلي، المنحوت من البازلت والمُعدّ خصيصًا للملك، فقد بقي في “قبره المائي” منذ ذلك الحين. ومن حين لآخر تتجدد المطالبات بمحاولة تحديد موقعه عبر تقنيات الاستكشاف البحري الحديثة، لكن حتى الآن لم تثمر أي جهود.
رمزية الفقدان
قصة تابوت منكاورع تتجاوز مجرد حادثة غرق لسفينة. فهي تعكس مزيجاً من الطمع الاستعماري الذي تعامل مع الآثار المصرية كغنائم، والمأساة الثقافية لفقدان قطعة أثرية فريدة كان من الممكن أن تضيف الكثير لفهمنا لتقنيات النحت والدفن الملكي في مصر القديمة.
كما أن ضياع التابوت يطرح تساؤلات أخلاقية: لو لم يُسرق من الأساس، لظل محفوظاً داخل هرمه في موضعه الطبيعي، ولربما أصبح اليوم أحد أعظم كنوز مصر المعروضة للعالم في المتحف المصري الكبير. لكن قراراً استعمارياً متعجرفاً وضع حداً لهذا الاحتمال.
بين السرقة والقدر
يمكن القول إن تابوت منكاورع يمثل حالة استثنائية بين كنوز مصر المنهوبة. فمعظم ما خرج من أرض مصر وصل بالفعل إلى القاعات الغربية: لندن، باريس، برلين، روما، بوسطن وغيرها. أما هذا التابوت، فقد اختار له القدر أن يُفلت من أيدي اللصوص، لكن بثمنٍ فادح: الضياع الأبدي.
وربما تحمل القصة رسالة رمزية: أن الآثار المصرية ليست سلعة قابلة للتملك أو النهب، بل هي إرث إنساني عظيم، وإذا ما جرى العبث به فإن الطبيعة نفسها قد تتدخل لتحفظ أسراره بعيداً عن الطامعين.
خاتمة
إن قصة تابوت منكاورع هي فصل من فصول التاريخ المزدوج: تاريخ الحضارة المصرية التي أبدعت فناً خالداً، وتاريخ النهب الاستعماري الذي سعى لتجريد مصر من هويتها المادية. وبين هذين الخطين، سقط التابوت في البحر ليصبح رمزاً للفقدان والحرمان.
ومع ذلك، ما زالت رسالته حيّة: أن حماية التراث واجب وطني وإنساني، وأن كنوز مصر لا ينبغي أن تكون ضحية للنهب ولا لغرقٍ آخر في بحار الإهمال. فكل قطعة أثرية هي شاهد على حضارة علّمت العالم معنى الخلود، ولا يجوز أن تنتهي نهاية مأساوية كما انتهى تابوت منكاورع في أعماق المتوسط.
دكتور قاسم زكى؛
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر




