الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (24): بردية تورينو وملوك مصر

نأتي اليوم أيضا الى مدينة تورينو (تورين) الإيطالية مركز الثقافة والفن والسياسة، ونزور أيضا المتحف المصري بها الذي يعتبر ثاني أكبر متحف مصري في العالم بعد المتحف المصري بالقاهرة؛ وهو أهم المعالم السياحية في تورينو، والذي يضم مجموعة ضخمة من الآثار المصرية القديمة، بما في ذلك المومياوات والتماثيل والأواني والبرديات. في الحلقة السابقة من سلسة مقالات عن تهريب الآثار المصرية تحدثنا عن تحفة تورينو الساطعة (تمثال رمسيس الثاني)؛ أما اليوم فسوف نتحدث عن أقدم نص مكتوب باللغة المصرية القديمة موجودة هناك أيضا، آلا وهي بردية تورينو أو بردية الملوك (قائمة ملوك تورينو “Royal Turin King List “).
بل هناك ثلاث برديات مصرية قديمة بارزة محفوظة في المتحف المصري بتورينو، وأولهن وأهمهن بردية تورينو الكهنوتية (قائمة ملوك تورينو) والتي تحتوي على قائمة بأسماء الفراعنة الذين حكموا مصر، بالإضافة إلى أطوال فترة حكمهم. وتعتبر مصدراً تاريخياً هاماً للغاية لتسلسل وتواريخ الفراعنة المصريين. لسوء الحظ، البردية متضررة للغاية ومجزأة، مما يجعل قراءتها وترجمتها تحدياً كبيراً.
أما البردية الثانية فهي بردية تورينو الجيولوجية، وتعتبر أول خريطة جيولوجية معروفة في تاريخ العالم. تصوّر منطقة تعدين في وادي الحمامات بالصحراء الشرقية (وهو قاع نهر جاف في الصحراء الشرقية لمصر موجود في منتصف الطريق بين القصير وقنا). وتوفر هذه البردية معلومات قيمة عن الممارسات التعدينية في مصر القديمة، وأنواع الصخور الموجودة، وتخطيط المنطقة.
أما ثالثتهن فهي بردية تورينو المثيرة (بردية تورينو الإيروتيكية (Erotic Papyrus of Turin)) وهي عبارة عن مخطوطة تصوّر مشاهد جنسية. تعتبر ذات أهمية لدراسة الحياة الجنسية والعادات الاجتماعية في مصر القديمة. تُعد أقدم عمل فني إباحي معروف في التاريخ البشري.
بردية تورينو الكهنوتية (قائمة ملوك تورينو).
فبردية تورينو أو بردية الملوك بتورينو هي بردية طولها 710 سم وعرضها 41 سم، كتبت بالخط الهيراطيقي في عهد رمسيس الثاني وتحمل أسماء الفراعنة الذين حكموا مصر قبله وعدد سنوات حكمهم، ابتداء من حكام الأسرة الأولى وحتى الأسرة التاسعة عشرة. بقايا المخطوطة المكتوبة على لفافة البردي ترص أسماء الفراعنة القدامى بحسب ترتيبهم الزمني وهي تعتبر الأساس لمعظم القوائم التاريخية التي عثر عليها من فترة حكم رمسيس الثاني. البردية محفوظة في متحف مصر القديمة (Museo delle antichità egizie) بمدينة تورينو. سميت البردية بهذا الاسم لأنها موجودة حاليًا في متحف تورينو في إيطاليا.
دروفيتي يحصل على البردية وشامبليون وآخرون يدرسونها:
وقد عثر الباحث عن الأثار المصرية الجنرال الإيطالي “برناردينو دروفيتي” في عام 1820م على بردية الملوك هذه في في دير المدينة (الأقصر)، وهي مدينة كان يسكنها العمال الذين كانوا يعملون في بناء مقابر الفراعنة في وادي الملوك وأخذها إلى أوروبا. وفي عام 1824م حصل عليها المتحف المصري بتورينو. وتبين عند فتح الصندوق (الذي كان من المفروض أن يحفظها أثناء النقل إلى إيطاليا) أنها تفتتت إلى قطع صغيرة. وبدى ساعتها أن إعادتها إلى أصلها من المستحيلات.
ولاحظ شامبليون عند فتحه الصندوق أن بعض الأجزاء مكتوب عليها خراطيش تحوي أسماء ملوك. وكانت في استطاعته في ذلك الوقت قراءة أسماء الملوك فقط (عام 1824م). فقام برسم لوحة من القصاصات الكبيرة.
وبعد مغادرة شامبليون تورينو بفترة وجيزة قام الباحث في الأثار السكسوني (الألماني)” جوستاف زايفارت” (Gustav Seifart؛ 1796م- 1885م) بزيارة المتحف، وفحص القصاصات واستطاع التعرف على جميع القطع المعروفة لدينا اليوم، وكان معظمها بمساحة 1 سنتيمتر مربع. وقام برص الأجزاء لإعادة البردية، وتلك المنظومة هي التي بقيت عليها البردية حتى وقتنا الحاضر. واستعان “زايفارت” بأشكال نسيج البردي والتوفيق بينها في توزيعها لكي يعيد البردية إلى شكلها الأصلي، فلم تكن الكتابة الهيراطيقية معروفة في ذلك الوقت. وبالمقارنة بقوائم الملوك الأخرى التي عثر عليها من قبل تبين تناظرا كبير في المعلومات واتفاق مثلا مع قائمة مانيتون. ولكن تحوي كل من قائمة الملوك (سقارة) وقائمة ملوك مصر (أبيدوس) وقائمة الملوك بالكرنك عددا أقل من ملوك الفراعنة. لذا يوجد بعض الاختلاف في القائمة الموجودة في بردية تورينو عن القوائم الأخرى للملوك المصريين، مما أثار العديد من النقاشات والجدالات حول التسلسل الزمني للحضارة المصرية.
البردية متضررة جدا:
لسوء الحظ، فإن بردية تورينو الكهنوتية متضررة للغاية ومجزأة. عندما اكتشفها المستكشف الإيطالي برناردينو دروفيتي في أوائل القرن التاسع عشر، كانت بالفعل في حالة سيئة. ووصلت إلى المتحف المصري في تورينو في حالة مجزأة، مما زاد من صعوبة تجميعها وترجمتها. على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها العلماء لإعادة تجميع الأجزاء المتناثرة، لا تزال هناك فجوات وأجزاء مفقودة. وقد أدى ذلك إلى بعض الجدل والتحديات في تفسير القائمة.
أيدت الفحوصات اللاحقة التي قام بها عالم الأثار الألماني ” فرانز جوزيف لاوت (Franz Joseph Lauth) ؛ 1822م-1895م)” التشكيل الذي كان قد توصل إليه “زايفارت”، ماعدا نقله العمود 12 إلى العمود 10. ومع ذلك تبقى مشكلة عدم وجود نحو نصف البردية والتي قد تكون إجزاء منها قد فقدت تماما أو ربما بأعاده توزيع القصاصات يمكن تقليل المساحات الخالية. لذا يختلف العلماء في تفسير بعض الأجزاء من البردية، مما أدى إلى وجود آراء متعددة حول معناها.
محتوي البردية وتفردها:
تبدأ البردية بقائمة من الآلهة الذين حكموا مصر قبل الفراعنة، تليها قائمة بالفراعنة الذين حكموا منذ الأسرة الأولى وحتى عهد رمسيس الثاني. وتسجل البردية أسماء الفراعنة وأطوال فترة حكمهم بالسنوات والشهور والأيام. ومع ذلك، فإن الحالة المجزأة للبردية تطرح العديد من التحديات. فبعض الأجزاء غير مقروءة، ولا يزال موضع بعض الأجزاء الأخرى غير مؤكد. وقد أدى ذلك إلى اختلافات في قراءة وترجمة القائمة بين العلماء المختلفين. وقد اكتشفت في عام 2009م أجزاء إضافية كانت مخزونة في متحف تورينو وهي في حالة جيدة، ومن المتوقع أن تفحص البردية كاملة من جديد. وقد أتاحت التطورات التكنولوجية الحديثة، مثل التصوير الرقمي والمعالجة الحاسوبية، إمكانية إعادة تجميع الأجزاء المتضررة وتوضيح النقوش الباهتة. ويقوم الباحثون أيضًا بمقارنة البردية بالمصادر التاريخية والأثرية الأخرى للتحقق من دقتها وسد الفجوات المتبقية.
أهمية وتميز بردية تورينو:
تعتبر بردية تورينو قطعة أثرية فريدة من نوعها، فهي مصدر أساسي لدراسة التاريخ المصري القديم. فهي تساعدنا على فهم كيفية بناء المصريين القدماء لتسلسل زمني لأحداثهم التاريخية، وتوفر لنا معلومات قيمة حول نظامهم السياسي والديني. كما تحتوي البردية على نظام أعداد مصري قديم، مما يجعلها مصدرًا هامًا لدراسة الرياضيات في الحضارة المصرية.
تكمن أهمية بردية تورينو الكهنوتية في أنها واحدة من أكثر قوائم الملوك شمولاً ودقة التي تم العثور عليها حتى الآن. على عكس المصادر الأخرى، فإنها لا تغفل الفراعنة غير الشرعيين أو الذين اعتبروا “مبتدعين” من قبل الحكام اللاحقين. وهذا يجعلها سجلاً أكثر موثوقية للتاريخ المصري.
توفر القائمة معلومات لا تقدر بثمن حول مدة حكم كل فرعون، مما يساعد علماء الآثار والمؤرخين على تحديد التسلسل الزمني للأحداث والتواريخ المصرية القديمة. كما أنها تقسم تاريخ مصر إلى الأسر التي لا يزال يستخدمها علماء المصريات حتى اليوم.
دكتور قاسم زكى؛
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر