مقالات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية ( 52) .. الآثار المصرية… ضحية الحقيبة الدبلوماسية

تُعد قضايا تهريب الآثار المصرية من أخطر الجرائم التي تهدد الهوية الحضارية للدول، ومصر ليست استثناءً، بل تُعد هدفًا دائمًا لعصابات منظمة تسعى لنهب تراثها العريق. وفي السنوات الأخيرة، تكررت عمليات تهريب الآثار المصرية بأساليب تزداد تطورًا وتعقيدًا. لكن كان من اغرب تلك القضايا ما عُرف إعلاميًا بـ”قضية تهريب الآثار المصرية إلى إيطاليا عبر الحقيبة الدبلوماسية”، والتي هزت الرأي العام المصري والدولي في مايو 2018م، وهي موضوع حلقتنا هذه.

التهريب في عباءة الدبلوماسية:

في يوم الخميس 24 مايو 2018م (8 رمضان 1439هـ)، أعلنت وكالات الأنباء ضبط السلطات الإيطالية حاويات دبلوماسية قادمة من مصر، تحوي قطعًا أثرية نادرة من مختلف العصور المصرية. ما أثار الصدمة أن التهريب تم باستخدام حقائب دبلوماسية، ما يعني استفادة المهربين من الحصانة التي توفّرها اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961)، والتي تمنع تفتيش تلك الحقائب بشكل روتيني.

المهربون استغلوا هذا الامتياز لتمرير آثار لا تقدر بثمن، بعضها صغير الحجم مثل العملات والمجوهرات، وبعضها تم تفكيكه ليبدو كأثاث أو مواد بناء. وعادة ما تُخفى القطع الكبيرة داخل الحاويات، فيما تستغل شبكات التهريب العالمية الثغرات الحدودية، وأحيانًا فساد بعض المسؤولين، لتمرير تلك الكنوز خارج البلاد.

تفاصيل الكارثة:

أعلنت وسائل الإعلام الإيطالية أن الحاويات المضبوطة وصلت إلى ميناء “ساليرنو” الإيطالي من ميناء الإسكندرية، وتحوي قطعًا أثرية يُشتبه بانتمائها للحضارة المصرية. أكدت وزارة الآثار المصرية الخبر، وبيّنت أن شرطة نابولي الإيطالية ضبطت قطعًا تنتمي لحضارات متعددة، من بينها 118 قطعة مصرية.

قامت السفارة المصرية في روما بإبلاغ وزارة الآثار على الفور، وأُرسلت لجنة متخصصة لفحص صور القطع، وتحديد مدى أثريتها. تبيّن أن أغلب القطع غير مسجلة ضمن المفقودات الرسمية من المتاحف أو المخازن، ما يشير إلى أن مصدرها أعمال تنقيب غير مشروع.

القطع كانت عبارة عن أوانٍ فخارية، وأجزاء من توابيت، وعملات قديمة، وقطع من العصر الإسلامي. تم اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستعادتها بالتنسيق مع وزارة الخارجية والسلطات الإيطالية.

مفارقات وتحقيقات:

نفت وزارة الخارجية المصرية في بيان رسمي أن تكون الحاوية تتبع السفارة المصرية في روما. وأفادت أن السلطات الإيطالية أخطرتها، في مارس 2018م، بوجود أكثر من 23 ألف قطعة أثرية، من بينها 118 قطعة آثار مصرية، عُثر عليها في حاوية دبلوماسية، لكن الحاوية لا تعود لدبلوماسي مصري، بل لمواطن إيطالي. وفي حين تم ضبط الآثار في مايو 2017م، لم تُخطر مصر رسميًا إلا بعد مرور عام تقريبًا.

وأشارت بعض الصحف الإيطالية إلى احتمال علاقة تلك الآثار بتنظيم “داعش” الإرهابي، بحكم وجود آثار من سوريا والعراق وليبيا واليمن ضمن الشحنة. إلا أن التحقيقات نفت هذا الادعاء لاحقًا، وأكدت أن القضية تتعلق بشبكة تهريب دولية.

القضاء يتحرك:

أصدر النائب العام المصري قرارًا بإيفاد خبراء آثار إلى إيطاليا لفحص القطع المضبوطة والتنسيق مع الجانب الإيطالي. كما أُرسلت إنابة قضائية للسلطات الإيطالية للتحفظ على القطع وموافاة النيابة المصرية بالمستندات والمعلومات المتعلقة بالقضية.

وأسفرت التحقيقات لاحقًا عن فضيحة من العيار الثقيل، حيث طلب الإنتربول المصري من السلطات الإيطالية تسليم القنصل الفخري الإيطالي السابق بالأقصر، “لادسلاف أوتكر سكاكال”، المحكوم عليه بالسجن المشدد 15 عامًا وغرامة قدرها مليون جنيه، لتورطه في تهريب القطع الأثرية بين 2016م و2018م بالتعاون مع الملحق الدبلوماسي “ماسيميليانو سبونزيلي”.

اخترنا لك الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية ( 51) .. حِيَل تتجدد ونهب لا يتوقف

في 15 فبراير 2020م، أصدرت محكمة الجنايات أحكامًا رادعة، حيث قضت بسجن رجل الأعمال والممثل المصري بطرس رؤوف غالي (شقيق وزير المالية الأسبق يوسف بطرس غالي) بالسجن 30 عامًا، لتورطه في الجريمة. كما أُدين آخرون من بينهم أحمد حسين نجدي (منفذ الحفر)، ومدحت ميشيل جرجس (صاحب شركة خدمات عامة) بالسجن المشدد 15 عامًا.

دروس وتداعيات:

كشفت القضية عن وجود خلل واضح في منظومة حماية الآثار، وعن تورط مسؤولين في تسهيل التهريب. كما أبرزت خطورة استغلال الامتيازات الدبلوماسية لأغراض غير قانونية، ما شكّل انتهاكًا للأمن القومي المصري.

ونتيجة للفضيحة، تم تشديد الرقابة على المنافذ الحدودية، بما في ذلك الحقائب الدبلوماسية، وتعديل بعض القوانين الخاصة بتجريم تهريب الآثار. كما عززت الأجهزة الأمنية المصرية تعاونها مع نظيراتها الدولية لملاحقة الشبكات المتورطة.

وفي إطار التوعية، انطلقت حملات وطنية لحث المواطنين على الإبلاغ عن أي أنشطة مشبوهة، واستخدام التكنولوجيا الحديثة في تتبع القطع المسروقة وحمايتها. وقد تم بالفعل استعادة تلك الآثار المسروقة من إيطاليا في يونيو 2018م.

سؤال مفتوح

هكذا تخرج كنوز مصر من أرضها، تارة عبر الحفر غير المشروع، وتارة أخرى في عباءة الدبلوماسية. كنا نُرجع هذه الكوارث في الماضي إلى أن من يحكمون البلاد كانوا من غير المصريين، فماذا نقول اليوم وقد أصبحت السلطة بيد أبناء الوطن؟ لماذا لا تزال عمليات النهب قائمة؟ وأين تقف المسؤولية؟!

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى