مقالاتمنوعات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (26): المتحف البريطاني وتاريخ البشرية

تناولنا في الحلقة (19) من سلسلة المقالات التي تتحدث عن تهريب الآثار المصرية تحت عنوان (متاحف عالمية بالخارج تحوي آثار مصرية) وذكرناها لماما، وأن الآوان لزيارتها تفصيليا ومعرفة محتواها ومطابقته للقيم الإنسانية في إنشاء المتاحف. فالمتحف البريطاني هو أول متحف وطني عام في العالم يوجد في لندن عاصمة المملكة المتحدة، يغطي جميع مجالات المعرفة الإنسانية، مفتوحًا لاستقبال ملايين الزوار من جميع أنحاء العالم مجانا؛ ليشاهدوا مجموعته النادرة التي تعد الأكبر على الإطلاق في العالم من حيث تنوعها وثرائها الفريد. وهو أكبر متاحف بريطانيا ومن أهم متاحف تاريخ وثقافة البشر قاطبةً، يعد أقدم المتاحف على مستوى العالم، فيه حاليا ما يزيد عن 13 مليون غرضًا من جميع قارات العالم، أنشأه قانون برلماني كأول متحف عام مجاني في العالم تأسس عام 1753م اعتمادًا على مجموعات العالم الفيزيائي “السير هانز سلون” (Sir Hans Sloane، 1660م-1753م)، وافتتح في 15 يناير 1759 م في بلومزبري.

اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (25): متفرقات من اندر القطع الأثرية المصرية في متاحف العالم

‏على مدى السنوات الــ260 التالية، نمت مجموعات المتحف على نطاقٍ واسع إلى حوالي ثمانية ملايين قطعة تغطي مليوني سنة من تاريخ البشرية، تمَّ أخذ بعض هذه القطع أو شراؤها في مناطق كانت تحت الحكم الاستعماري البريطاني قبل شرائها أو التبرع بها أو توريثها للمتحف، بينما تمَّ الحصول على البعض الآخر من خلال الحفريات والمبيعات والوصايا الأخرى من قِبل هواة الجمع. النسبة الكبرى من مجموعات المتحف قد أتت عبر التبرعات والوصايا‏، أو توريثها للمتحف، لا سيما في القرنين 19 و20.

‏لكن هناك وسائل أخرى التي جمع بها بقية الثلاثة عشر مليون قطعة أثرية هي الحفائر في جميع أنحاء العالم.‏ ‏وفي أواخر القرنين 19 و20، مارست العديد من حكومات الدول المحتلة مبدأ القسمة، حيث يبقى جزءٌ من الاكتشافات من الحفريات في البلاد، مع التبرع بالباقي لمنظمة/ لبعثة التنقيب الأجنبية، مثل صندوق استكشاف مصر (the Egypt Exploration Fund).‏

التاريخ الاستعماري البريطاني:

ولكن قبل أن تتسرع بافتراض الإجابة على سؤال كيف جمع المتحف البريطاني كل تلك التحف من بلدان العالم المختلفة، عليك معرفة أن هذا السؤال يحمل إرثًا ضخمًا من الاتهامات التي يواجهها المتحف منذ سنوات إنشائه الأولى تقريبًا وحتى الآن، بشأن الطريقة التي اتبعها في جمع مقتنياته ومجموعاته من مختلف بلدان القارات السبع، وهي الطريقة التي ما تزال تثير الجدل على مختلف المستويات؛ الأخلاقية والسياسية والعلمية، بل والعقائدية في بعض الأحيان! وكانت سببًا في نشوب أزماتٍ عديدة بين بريطانيا وعدد ليس بالقليل من بلدان العالم بشأن مقتنيات محددة أصبحت محل نزاع دولي.

‏‏كان للإمبراطورية البريطانية تأثيرٌ كبيرٌ على مجموعة المتحف البريطاني، حيث حصل المسئولون والدبلوماسيون والمبشرون والرحالة البريطانيون على مجموعاتٍ كبيرة وصغيرة في البلدان الخاضعة للحكم البريطاني؛ حيث زاروا أو عاشوا .‏وفى هذه الفقرة نود أن نتذكر ما قام به القنصل الإنجليزي بمصر المدعو “هنري سولت” (Henry Salt ؛ 1780 م- 1827م)، والذي مكث في مصر منذ عام 1815م وحتى 1827م، فقد كان مثل ماكينة جمع آثار مصر وتصنيفها لمجموعاتٍ ثم بيعها لمتاحف العالم، ومنها ذلك المتحف البريطاني، وكان يعاونه على ذلك تابعه الإيطالي المدعو “جيوفاني باتستا بلزوني” (Giovanni Battista Belzoni؛ 1778م – 1823م).

‏ ويعترف المتحف البريطاني بالتاريخ الصعب لبعض مجموعاته، بما في ذلك الوسائل المتنازع عليها التي تمَّ من خلالها الحصول على بعض المجموعات؛ مثل العمل العسكري وعواقبه، وفي حالاتٍ أخرى، أمكن الحصول على مجموعاتٍ خلال فترة النزاع، ولكن الظروف الدقيقة لكيفية الحصول عليها غير معروفة.

اخترنا لك : رامي العاصي يكتب .. خدعة الغذاء الصحي  

‏أحد الأمثلة على ذلك هو “‏‏برونز بنين”‏‏ (هي مجموعةٌ من أكثر من ألف لوحة معدنية ومنحوتات من القطع الفنية الرائعة والقديمة جدًا، زينت القصر الملكي لمملكة بنين والتي كانت موجودةً في غرب أفريقيا “ما يُعرف الآن بجنوب نيجيريا.  ففي خلال حملة عسكرية واسعة النطاق ضد مملكة بنين في غرب إفريقيا في عام 1897م، تمَّ نهب مدينة بنين وقصورها التاريخية بشكلٍ منهجي للأعمال الفنية من قِبل القوات البريطانية، ونقلت هذه القطع إلى المتاحف الأوروبية، فهناك أكثر من 900 قطعة من بنين في مجموعة المتحف البريطاني.‏

‏ومن الطريف أيضا، أن المتحف البريطاني قد حصل على مجموعة المتحف من الجزر البريطانية نتيجة للقوانين المتعلقة بالكنوز المدفونة، لعدة قرون، كانت العناصر المعدنية الثمينة التي أخفاها أصحابها أو دفنوها لاستعادتها لاحقًا تُعد ملكًا للتاج البريطاني.

ولا يزال المتحف البريطاني يجمع مقتنيات أثرية بنشاطٍ في القرن 21 لضمان بقاء المجموعات ذات الصلة متجددة، بالشراء بل وبالطلب من الفنانين إعداد قطع أثرية أو لوحات مثل شراء رسوم لشخصية من “موكو جومبي” (شخصيةٌ أسطورية من ثقافات الكاريبي) .

مع مرور الوقت تزايدت مجموعات المتحف البريطاني بشكلٍ كبيرٍ، وكان من أشهرها تلك المجموعة المصرية التي استولى عليها الإنجليز بعد انتصارهم في موقعة أبو قير البحرية على الفرنسيين، وأهم ما فيها بالطبع حجر رشيد، ومن أبرز أقسام المتحف، القسم المصري والآشوري واليوناني والروماني والبريطاني، وفيه مبرزات في علم السلالات البشرية وعلم الحيوان والنبات والجيولوجيا، وقسم للطبع والتصوير وغيرها، وتضم مكتبة المتحف العديد من الكتب القديمة والمخطوطات النادرة المطبوعة والخطية، وخزنت العديد من التحف أسفل المتحف بسبب ضيق المساحة.

هذا ما ذكره المتحف على صفحته الرئيسية، وواضح أن هناك شعورٌ بوخز الضمير بأن غالبية القطع المجموعة من دولٍ أخرى وبعضها به شكٌ في ملكيتها الخالصة للمتحف؛ مثل برونز بنين وكنوز الجزر البريطانية ومخطوطة التحذيرات الصينية والمئة ألف قطعة آثار مصرية وغيرها.

هل يمكن إعادة مقتنيات الدول الأخرى اليها:

قبل سنواتٍ، كتب البروفسير روبرت أندرسون (Robert Geoffrey William Anderson، مواليد 1944م، 81 عاما)، عندما كان مديرًا للمتحف البريطاني (خلال الفترة 1992م-2002م)، مقالًا (في صحيفة التايمز، 15 يناير 20002م) بعنوان “لماذا لا يستطيع -ولا يريد- المتحف البريطاني إعادة منحوتات البارثينون؟” (يقصد رخاميات البارثينون والمعروفة أيضًا باسم رخاميات إلجين، هي عبارة عن مجموعة من المنحوتات الرخامية اليونانية الكلاسيكية، كانت هذه المنحوتات في الأصل جزءًا من معبد البارثينون ومباني أخرى في الأكروبوليس في أثينا). كشف أندرسون في مقاله هذا ما يمكن اعتباره “العقيدة الراسخة للمتحف البريطاني” بشأن النزاع حول المقتنيات الأثرية التي جمعها المتحف من مختلف بلدان العالم. وأوضح بشكلٍ لا لبس فيه رفضه القاطع لفكرة إعادة المقتنيات المتنازع عليها قائلًا “إن فرضية إعادة كل قطعةٍ إلى البلد التي صنعت فيها وإلى موطنها الأصلي، سوف يفرغ المتحف البريطاني -وغيره من المتاحف الكبرى في العالم- من مقتنياته”.

دكتور قاسم زكى؛

 أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،

عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى