مقالات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (31): آثار مصر في متحف لوفر أبو ظبي: بين العالمية والانتماء

في قلب الخليج العربي، حيث تلتقي الحداثة بروح الشرق، يقف متحف اللوفر أبو ظبي كعلامة ثقافية بارزة في المشهد المعماري والمعرفي الإقليمي، وكان هذا المتحف موضوع مقالتنا السابقة (رقم 30) ضمن سلسلتنا عن (تهريب الآثار المصرية). غير أن المتأمل في قاعات هذا المتحف لن يُخطئ الحضور اللافت للحضارة المصرية القديمة، ممثلة في تماثيل فرعونية ونقوش هيروغليفية وقطع فنية نادرة، تحاكي مجد آلاف السنين من الإبداع الإنساني الذي وُلد على ضفاف النيل.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه، بعيدًا عن الإعجاب البصري والفرجة الثقافية: ما الذي تفعله آثار مصر في متحف أجنبي بالأساس، وإن كان مقامه عربيًا؟

بين الإعارة والتساؤل المشروع:

توضح البيانات الرسمية أن هذه الآثار معروضة ضمن اتفاقيات إعارة طويلة المدى بين متحف اللوفر في باريس ومتحف اللوفر أبو ظبي، وهو ما يعني أن القطع لم تخرج من مصر في السنوات الأخيرة، بل خرجت منذ عقود واستُعيد عرضها في إطار شراكة دولية ثقافية. ومن المؤسف حقا، عدم الحصول على رأي الجانب المصري في فكرة التبادل للأثار المصرية بين الدولتين لإنشاء هذا المتحف.

ورغم ذلك، فإن عرض تمثال لتوت عنخ آمون، ونقوش تُظهر طقوسًا دينية فرعونية دقيقة، داخل متحف غير مصري، يعيد إحياء نقاش ثقافي عميق حول مفهوم الملكية الثقافية، والحق في السرد التاريخي.

لا بديل عن إعادة السياق المصري للقطعة:

يؤكد الدكتور زاهي حواس، عالم الآثار ووزير الآثار الأسبق، في أحد تصريحاته لجريدة “الأهرام”، أن “عرض الآثار المصرية في متاحف أجنبية دون موافقة الدولة المصرية يمثل انتقاصًا من السيادة الثقافية، حتى وإن تم تحت مظلة الإعارة”.
ويُضيف: “ما لم تكن القطعة الأثرية موثقة المصدر ومصحوبة بسرد يوضح هويتها الحقيقية ومكان اكتشافها، فإن عرضها خارج مصر يُفقدها جزءًا من معناها الحضاري”.

اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (30): متحف اللوفر (لكن في أبو ظبي)

دور مصر ومسؤولية المتاحف الدولية:

مصر، التي قطعت شوطًا كبيرًا في استعادة عدد من قطعها الأثرية مؤخرًا من متاحف عالمية كبرى، ما زالت تُؤكد موقفها الثابت بأن آثارها ليست مجرد عناصر فنية للعرض، بل تمثل هوية حضارية موغلة في القدم، وتُعد ركيزة أساسية في تكوين الوعي الوطني.

كما تؤمن القاهرة بأن احترام المتاحف العالمية للهوية الأصلية للقطع الأثرية، من خلال عرض معلومات دقيقة عن منشأها وظروف انتقالها، هو مسؤولية أخلاقية وثقافية لا تقل أهمية عن العرض الفني نفسه.

الأهرامات

العولمة الثقافية وحدودها:

من زاوية أخرى، يُمكن النظر إلى عرض الآثار المصرية في صالات عالمية على أنه ترويج حضاري ناعم، يفتح آفاقًا جديدة للتعريف بعظمة مصر القديمة، لاسيما في ظل ما يشهده العالم من حراك ثقافي معولم.

لكن تبقى الإشكالية قائمة: هل يُمكن أن يحل العرض البصري مكان الارتباط الجغرافي والحضاري؟ وهل يستطيع الزائر في أبو ظبي، أو باريس، أن يفهم عظمة الحضارة المصرية بنفس العمق الذي يشعر به من يزور الأقصر أو الجيزة أو المتحف القومي للحضارة في الفسطاط؟

 

أهم قطع الآثار المصرية في لوفر أبو ظبي:

يضم متحف اللوفر أبو ظبي مجموعة متميزة من القطع الأثرية المصرية القديمة، تعكس عظمة الحضارة الفرعونية وتنوعها عبر العصور. وأبرز هذه القطع:

  1. نُصُب توت عنخ آمون: لوحة نادرة من الجرانيت الوردي تُظهر الفرعون توت عنخ آمون في مشهد مزدوج: في الجانب الأيسر، يقدم القرابين للإله أوزيريس، وفي الجانب الأيمن، يتلقى القرابين من أحد كبار الموظفين. تعود هذه اللوحة إلى حوالي عام 1327 قبل الميلاد، وقد أُثيرت تساؤلات حول مصدرها الأصلي.
  2. تابوت الأميرة “حنوت تاوي”: تابوت خشبي مزخرف يعود إلى الأميرة “حنوت تاوي”، ابنة الملك رمسيس الحادي عشر من الأسرة العشرين. يتميز التابوت بزخارفه الملونة التي تعكس المعتقدات الجنائزية في تلك الفترة.
  3. تمثال رمسيس الثاني: تمثال ضخم للملك رمسيس الثاني، أحد أعظم ملوك الدولة الحديثة. يعكس التمثال القوة والهيبة التي تمتع بها هذا الفرعون خلال فترة حكمه الطويلة.
  4. تمثال أبو الهول: تمثال لأبو الهول يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، يُجسد مزيجًا بين القوة البشرية والحكمة الحيوانية، ويُعتبر رمزًا للحماية في الثقافة المصرية القديمة.
  5. بورتريه الفيوم: لوحة تصويرية تُعرف باسم “بورتريه الفيوم”، تعود إلى الفترة بين 225 و250 ميلادية. تُظهر هذه اللوحة تقنيات التصوير الواقعية التي كانت سائدة في مصر خلال العصر الروماني.

تُعرض هذه القطع ضمن قاعات المتحف التي تُبرز التفاعل بين الحضارات المختلفة، مما يُتيح للزوار فهمًا أعمق للتاريخ الإنساني المشترك.

اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (29): الجناح المصري في متحف اللوفر بباريس

لوفر أبو ظبي وقصة مخزية:

وفى قضية مؤسفة أخرى، ومع منتصف العام 2022م أعلنت الصحف الفرنسية للأسف عن تورط المتحفين “متحف لوفر باريس ومتحف لوفر أبو ظبي” في تهريب آثار مصرية (بالأحرى بعض علماء الأثار الفرنسيين المشاهير ومنهم عالم الآثار الفرنسي “جان لوك مارتينيز” ( Jean-Luc Martinez، مواليد 1964م، 61 عام، مدير متحف اللوفر السابق خلال الفترة  من 2013م إلى عام 2021م) ومعه عدد أخر من مشاهير علماء المصريات الفرنسيين تورطوا في قضية كبرى تُثير شكوكًا عالمية حول الآثار المُهرّبة والقطع الأثرية المسروقة من دول عدة، تأتي في مقدمتها مصر، صاحبة النصيب الأكبر من الآثار المُتفرّقة حول العالم.

أُُُتُهم “مارتينيز” بالتورط في تهريب قطع أثرية مصرية إلى متحف اللوفر أبو ظبي، وذلك عن طريق تزوير الوثائق الخاصة بأصل هذه القطع. وأشارت التحقيقات إلى أن بعض هذه القطع قد سرقت من مصر خلال فترة الاضطرابات التي شهدتها البلاد في أعقاب ثورة 25 يناير 2011م. في هذه الحادثة بيعت قطع أثار مصرية هامة للوفر أبو ظبي بمئات الملايين من اليورهات وعرضت في أبو ظبي، بأوراق وشهادات مزورة، وتناولتها أروقة المحاكم الفرنسية وادين عدد من المسؤولين الفرنسيين السابقين بمتحف لوفر باريس. ومازال هناك بعض الجدل حول أصل بعض القطع الأثرية المصرية المعروضة في متحف لوفر أبو ظبي، حيث تم التشكيك في شرعية الحصول عليها. وقد أجريت تحقيقات في هذا الشأن، ولكن لم يتم التوصل إلى نتائج نهائية حتى الآن. عموما يجب أن تكون هناك شفافية كاملة حول مصدر القطع الأثرية المعروضة في المتاحف، وذلك لضمان عدم تشجيع عمليات تهريب الآثار.

ختامًا: مصر تحكي تاريخها بنفسها:

إن كان من مكسب لهذا العرض، فهو أن الحضارة المصرية ستبقى مادة للانبهار والبحث عبر العصور. غير أن القصة الأهم تُكتب اليوم في القاهرة والأقصر وسقارة، حيث تُبذل جهود جبارة لإعادة بناء السردية المصرية بأيدٍ مصرية، من خلال افتتاح المتاحف الجديدة (مثل المتحف المصري الكبير)، واستعادة القطع الأثرية، وتعزيز البعد الثقافي في السياسة الوطنية.

فالحضارات العظيمة لا تُنسى، لكنها أيضًا لا تُستعار طويلاً.

دكتور قاسم زكى؛

 أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،

عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى