مقالاتمنوعات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (22)… دائرة الأبراج الفلكية (القبة السماوية لمعبد دندرة)

سبق أن تحدثنا في سلسة مقالات عن تهريب الآثار المصرية، عن أشهر اثنتين من الآثار المصرية التي هُربت للخارج وهما حجر رشيد وتمثال رأس نفرتيتي. وأن الأوان لنتطلع الى السماء ونحدثكم عن القبة السماوية التي كانت موجودة بمعبد دندرة (بمحافظة قنا) والتي تعد من أقدم العروض الفلكية الكاملة للسماء في التاريخ، وتوضح كيفية استخدام قدماء المصريين لهذا العرض في عمل التقويم الخاص بهم، كما يعكس هويتهم الدينية.

وصف القبة السماوية (Dendera Zodiac):

القبة السماوية الزودياك (The Zodiac) أو الكرة السماوية في علم الفلك وعلم الفلك الكروي،و هي كرة تخيلها الإنسان بنصف قطر لا منتهى له ومتحدة المركز مع الأرض ويدوران حول نفس المحور. لقد نقش المصريون القدماء القبة السماوية هذه على أسقف بعض معابدهم وأشهرها في معبد دندرة.

يوجد معبد دندرة (للإلهة حتحور) في جنوب مصر، جنوب شرق قرية دندرة، غرب النيل مواجهة لمدينة قنا (650 كم جنوب القاهرة، و74 كم شمال الأقصر، و6 كم غرب قنا)، وهو من أجمل وأكمل المعابد المصرية وتتمثل فيه كل الفنون من عصر الأسرات الفرعونية حتى الحقبة المسيحية. حسب التأريخ الرسمي فان تخطيط المعبد الأصلي يرجع إلى عهد الملك خوفو من الأسرة الرابعة والملك “بيبى” من الأسرة السادسة ثم تعاقبت عليه أيادي البنائين بداية من عصر الأسرة الفرعونية الحادية عشرة، كما ساهم البطالمة والرومان وتم استكمال المعبد في الحقبة المسيحية.

والمفترض أنه موطناً لعبادة “حتحور” إلهة الحب والجمال. والمعبد مشيد على شكل مربع يحاط بالكامل بجدار من الطوب اللبن. يرتفع سقف المعبد الكبير على 18 عموداً، يبلغ ارتفاع كل واحد منها 18 متراً، وتبلغ مساحة المعبد الأصلي 81 م × 38 م، وقد بنى من الحجر الرملي. ويزين قمة كل عمود أربعة وجوه ملونة لحتحور، وهي تنظر إلى الجهات الرئيسية الأربع. أما السقف، فينقسم إلى 7 أقسام تحوي نقوشا رائعة اً ملونة، وتحوي رسوما للحيوانات وللآلهة المصرية، والرموز النجمية ورموزا أخرى غامضة غير مفهومة. ويتميز هذا المعبد بالتوازن والقوة من الناحية المعمارية وبمناظره الهامة.

اخترنالك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (21)… تمثال نفرتيتي….. فاتنة الدنيا وحسناء الزمان

كان المعبد يحتوي على نقش السقف الدائري في المقصورة الثانية وهو الأشهر والأهم، فالقبة السماوية منقوشة على حجرين ضخمين سمك كل منها 90 سم. وفيها قسم الفراعنة هذه الدائرة إلى 36 مجموعة تضم البروج الستة والثلاثين التي تنتمي إلى “العشريات” وقرنوا كل برج باسم إله، إضافة إلى ذلك وضعوا نظاما لخمسة وعشرين برجا نجميا. وتنقسم هذه الأبراج إلى أبراج شمالية وأخرى جنوبية ومنها ثلاثة أبراج كانت دائما واضحة محددة المعالم وهي “ساحو” أي “أوريون” (على شكل اوزيريس)، و”سوثيس” أي “سيريوس” (بقرة مستلقية وقد قرنوها بإيزيس زوجة أوزيريس) والدب الأكبر (القسم الأول من ثور). والقبة من المواقع المصرية العريقة التي لعبت دورا هاما في مصر القديمة – فهي توضح أول تقويم في مصر، ومن خلاله عرفنا الجهات الأربع الأصلية، وعرفنا فصول السنة.

سرقة القبة السماوية:

ونأتي للقصة الطريفة المضحكة والحزينة في نفس الوقت. فالقبة السماوية تلك الدائرة النجمية التي اقتبس منها العالم فكرة الأبراج، تعرضت لقصة مأساوية وفضيحة تاريخية مدوية بطلها فرنسي من هواة نهب التراث المصري اسمه” سابستيان لويس سولينية”، وكان ابنا لاحد أعضاء مجلس النواب الفرنسي، قام هو ووكيله “جين باتيست لولوريان” بالادعاء أن اللوحة اكتشفها الجنرال “ديزية” أثناء الحملة الفرنسية على صعيد مصر، ومن ثم أصبحت أثرا فرنسيا قوميا يجب أن يرسل إلى باريس؟

وبالفعل قد حصلا على موافقة محمد علي باشا عام 1820م بنقل السقف الأصلي إلى باريس، وقام المهندس “جان بابتيست لولورين” بنقل لوحة “دائرة الأبراج الفلكية” الزودياك- الرائعة من سقف معبد دندرة وشحنها إلى باريس.

اخترنا لك الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (20)… حجر رشيد…مفتاح الحضارة المصرية القديمة

كانت دائرة الأبراج محفورة في كتل من الصخور بسمك ثلاثة أقدام واستخدم “لولورين” البارود ليفجر ثقوبا ثم أكمل أربعون عاملا قطع الأحجار باستخدام الأزاميل والمناشير، وبعد ثلاثة أسابيع من العمل ليلا ونهارا فصلت الكتل، وجرت على بكرات إلى أحد القوارب في النيل؛ ثم نقلت إلى الإسكندرية ومنها إلى ميناء مارسيليا ثم إلى باريس، حيث استقبلت استقبالا حافلا واخترقت شوارع باريس في موكب مهيب، ووصلت سالمة وأعيد تجميعها في متحف اللوفر. وظن بها أصحابها أن تبتذل فلم يعرضوها على الجمهور وقصروا مشاهدتها على العظماء.

وكافأ الملك لويس الثامن عشر السارق بـ 150 ألف فرنك.  وفي مقابل ذلك قام علماء فرنسيون فيما بعد (سنة 1920م) بصنع نموذج للسقف وما يحتويه من نقوش ورسوم، وهو الموجود حاليا داخل المعبد ويراه الزائرون.

القبة السماوية تناقض معتقدات الكنيسة الكاثوليكية:

في عام 1793م صدر كتاب العالم الفرنسي “ديبوى” بعد دراسته لرسوم البروج الفلكية على معبدي دندرة واسنا، وقد استنتج فيه أن المصريون القدماء هم أول من عرفوا علوم الفلك والبروج السماوية، وان عمر هذه الأبراج الفلكية المصرية يبلغ من 13 إلى 15 ألف سنة قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. واستنتج من هذا أن الحضارة المصرية عمرها أكثر من خمسة عشرة ألف سنه قبل الميلاد. وبعد ذلك بسنوات فى عام 1798م غزا نابليون بونابرت مصر وزار فيلقه العلمي الصعيد وشاهدوا برجين في سقف معبد دندرة وبرجين آخرين في معبد إسنا. فقال العلماء أن معبد إسنا يرجع إلى سبعة آلاف سنه ومعبد دندرة يرجع تاريخه إلى أربعة آلاف سنه ونشرت هذا الخبر جريدة “المونيتور” التي كانت تصدرها الحملة الفرنسية من القاهرة في عددها الصادر في 18 أغسطس 1800م وقالت الجريدة أن معابد أسنا ودندرة تعد من أحدث المعابد المصرية القديمة.

كان مجرد نشر هذه الحقائق ثورة على المعتقدات الدينية السائدة حول تاريخ خلق العالم، كما جاء في أسفار العهد القديم التي قدرت عمر خلق الإنسان على الأرض إلى رسالة السيد المسيح عليه السلام 5589 سنة. واعتبرت الكنيسة أن هذه الأرقام قضية مسلم بها ولا يجوز الاختلاف حولها وجعلتها من العقائد المقدسة. هذا التصور اخذ يصطدم بحقائق التاريخ المصري وعراقته وانقسم العلماء إلى فريقين. واستمرت المعركة سجال بين الفريقين، وفى خضم هذه المعركة، تمت سرقة القبة السماوية من معبد دندرة ونقلت إلى باريس. ولم تبق جريدة لم تنشر خبر وصولها والتف الناس حول هذا الأثر المصري العريق مما أزعج رجال الكنيسة، وبلغت المعركة حدتها واتهموا القبة السماوية بانها أداة لبث الإلحاد وإنكار الدين.

اخترنا لك : اقرأ في العدد (89) من نشرة غذائي … زيادة أسعار المحروقات تشعل نار الأسواق المحلية

وكان علماء الحملة الفرنسية قد نشروا كتاب وصف مصر وضمنوا به الصور والرسوم لمعبدي إسنا ودندرة. وفى هذا الوقت أيضا نجح شامبليون في فك رموز اللغة المصرية القديمة (الكتابة الهيروغليفية؛ عام 1822م). وبذا أصبحت دراسة الأثار والعلوم المصرية تهدم الأسس التي تقوم عليها الديانة وتدمر سلطان التوراة. وبعد رحيل شامبليون أتى بعده عديد من المتخصصين في علوم المصريات واثبتوا بالدليل أن تاريخ بداية الكون لا يتفق مع تأويلات الكنيسة وان معلومات القبة السماوية وغيرها من الأثار المصرية أقدم من ذلك التاريخ.

حينئذ لم تقو عقيدة الكنيسة على الثبات وانهارت وأعلنت أنها كانت على خطأ في تحديدها السنين التي كانت تحددها لخلق الإنسان، واعترفت بهزيمتها أمام التاريخ المصري. وجاء العلم الحديث ليدلل على وجود الإنسان على الأرض منذ بضع عشرات الألوف من السنين، البعض قدرها بنحو أربعين ألف سنة والبعض بخمسين ألف سنه وهناك من يقدرها بأكثر من ذلك.

دكتور قاسم زكى؛

 أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،

عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى