مقالات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (23): ملك الملوك …..تحفة تورينو الساطعة

تحدثنا في المقال السابق ضمن سلسلة مقالات عن تهريب الآثار المصرية، دائرة الأبراج الفلكية (القبة السماوية لمعبد دندرة، ونواصل في حلقة الإسبوع الحالي من مدينة تورينو الإيطالية (Torino) وهي جوهرة إيطالية تقع في شمال غرب البلاد، وتُعد مدينة تجارية وثقافية مهمة؛ وهي عاصمة إقليم “بييمونتي” وأكبر مدنه، وهي أيضا عاصمة مقاطعة تورينو وأول عاصمة لإيطاليا الموحدة بين عامي 1861م و1865م. عُرفت تاريخياً بأنها مركز للثقافة والفن والسياسة. وتضم المدينة العديد من المتاحف المميزة، أبرزها المتحف المصريMuseo Egizio di Torino)) الذي يعتبر ثاني أكبر متحف مصري في العالم بعد المتحف المصري بالقاهرة؛ وهو أهم المعالم السياحية في تورينو، ويضم مجموعة ضخمة من الآثار المصرية القديمة (تقدر بـ32500 قطعة أثرية)، بما في ذلك المومياوات والتماثيل والأواني والبرديات. يشتهر المتحف بوجود تمثال رمسيس الثاني وأيضا بردية تورينو، والأخيرة هي أقدم نص مكتوب باللغة المصرية القديمة.

تمثال الملك رمسيس الثاني “تحفة تورينو الساطعة”:

ويشتهر تمثال الملك رمسيس الثاني عالميًا بأنه تحفة تورينو الساطعة أو جوهرة المتحف، بسبب قيمته التاريخية والفنية الهائلة، فهو لأشهر الفراعنة القدامى وأطولهم حكمًا. والتمثال يعكس القوة والهيبة التي كان يتمتع بها رمسيس الثاني، أحد أعظم ملوك الفراعنة، والذي حكم لمدة 67 سنة وخلّف إرثًا ضخمًا من المعابد والتماثيل. ورمسيس الثاني ارتبط اسمه بمعارك كبيرة كـمعركة قادش، وبمشروعات معمارية ضخمة مثل معبد أبو سمبل. وهو ثالث فراعنة الأسرة التاسعة عشر، حيث ولد سنة 1303 قبل الميلاد ويعد من البنائين العظام في التاريخ البشرى كله، وأيضا من أشهر قادته المميزين. كانت له العديد من الزوجات أشهرهن وأحبهن إلى قلبه “نفرتاري”، وتجاوز عدد أبنائه المائة.

ويوجد التمثال اليوم في متحف تورينو في إيطاليا، حيث يعرض حاليًا في قاعة الملوك بالمتحف. وهو أقدم متحف في العالم مخصص بالكامل للحضارة المصرية، ويُعد من أغنى المتاحف من حيث المقتنيات المصرية القديمة، حتى أن البعض يعتبره “المتحف المصري الثاني بعد القاهرة”. تأسس في تورينو عام 1824م، ليستوعب مجموعة أثريات هُربت من مصر وصل عددها إلى 5268 قطعة، وتتبع ملكية هذه القطع إلى الدولة الإيطالية. بجانب رائعة تمثال رمسيس الثاني، فالمتحف يضم أهم مجموعات من أوراق البردي في العالم، وأيضا مقبرة “غا”، ناظر العمال في عهد قدماء المصرين.

اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (22)… دائرة الأبراج الفلكية (القبة السماوية لمعبد دندرة)

واحدًا من أضخم تماثيل رمسيس الثاني:

ويحظى تمثال رمسيس الثاني بشهرة عالمية، وهو مفخرة متحف تورينو؛ ويعتبر أحد أهم القطع الأثرية المصرية خارج مصر. ويعرض المتحف التمثال للجمهور من جميع أنحاء العالم، مما يساهم في نشر الوعي بالتاريخ المصري القديم. صور التمثال الملك رمسيس الثاني واقفًا ومثبتًا قدميه بثبات كدليل على القوة والعظمة، في هيئة تقليدية فرعونية، يرتدي النقبة الملكية القصيرة، وغطاء الرأس المعروف باسم “النمس”، مع الصل المقدس (الكوبرا) على جبهته، بالتاج الأزرق، أو خوذة الحرب والاحتفالات. يمسك الملك بصولجان في يده اليمنى، ولفافة من البردي في يده اليسرى، وهي رموز للسلطة والحكمة. يتميز التمثال بتفاصيله الدقيقة والمنحوتة بشكل رائع، حيث يظهر التشريح العضلي للملك بشكل واقعي، وملامح وجهه معبرة وهادئة، مما يدل على مهارة النحات المصري القديم. ويبلغ ارتفاعه حوالي 196 سم (حوالي 1.96 متر)، مما يجعله واحدًا من أضخم التماثيل التي وُجدت للملك رمسيس الثاني. يعود تاريخ التمثال إلى فترة الأسرة التاسعة عشرة (حوالي 1279–1213 قبل الميلاد). ويُعتبر التمثال في حالة جيدة جدًا، حيث لا تزال معظم تفاصيله واضحة ومحفوظة.

تمثال رمسيس الثاني وواقعية فن العمارنة:

ويخرج الملك في هذا التمثال عن الصور الملكية التقليدية؛ بارتدائه لباساً طويلاً كاملاً غير متماثل يظهر كُماً هائلاً على شكل جرس، كما يضع في قدميه صندلاً. والتمثال يصور الملك وهو يرتدي نقبة تسمح بحرية الحركة كما في أرض المعركة. ويتضح تأثير أسلوب واقعية العمارنة أيضاً في تجويف العينين ووجود الجفنين. والأنف كبير جداً والفم صغير نسبياً والذقن مدلاة؛ وجميع هذا خارج على تقاليد العصر التي لا يظهر منها سوى قطع الحاجبين والخطوط التجميلية.

نحتت الأقواس التسعة التي تمثل القبائل الأجنبية، في مذلة ذات دلالة مع سجينين (آسيوي وكوشي)، تحت قدمي الملك على القاعدة؛ تأكيد لهيمنة الملك المطلقة على مصر والبلاد الأجنبية. ومثل على جانبي ساقي الملك شكلان للزوجة الملكة نفرتاري والابن “آمونحرخبشف”، وصورا صغيرين لإظهار الأهمية الأقل نسبياً. والتمثال مصنوع من خامة “الديوريت” والتمثال واقف والذراعان ملاصقان للجسم والمنحوتات على الحزام، والنقوش الهيروغليفية على الظهر، كلها مليئة بأسماء الألقاب الملكية.

من معابد الكرنك إلى متحف تورينو:

وهذا التمثال يعد من أكبر التماثيل الملكية المصرية الموجودة خارج مصر. التمثال تم اكتشافه في معبد آمون في معابد الكرنك بمدينة الأقصر بمصر في عام 1820م أثناء بعثة أثرية بقيادة المستكشف الإيطالي دروفيتي (Bernardino Drovetti)، الذي كان قنصل فرنسا في مصر وكان هاوي جمع وتجارة الآثار. ونقل التمثال إلى إيطاليا كجزء من مجموعة دروفيتي التي اشتراها ملك سردينيا آنذاك، خلال الفترة التي كانت فيها الحماسة لجمع الآثار المصرية في أوجها في أوروبا. ودخل التمثال في قلب المعروضات الأساسية للمتحف، ومن يومها أصبح من أهم القطع فيه.

اخترنا لك :عمر عبد الحميد يكتب … أزمة “بلبن” ومناخ الإستثمار في مصر

وقد لقب التمثال بـ “تحفة تورينو الساطعة” لما له من أبهة وجمال وما يتمتع به من وروعة فنية. ولأنه من أكثر القطع التي تجذب الزوار بجماله، وتفاصيله الدقيقة، وهيبته، ويُستخدم التمثال رمزًا للمتحف نفسه في كثير من المواد الدعائية. وهو يمثل مزيج من الفن، والقوة، والرمزية الدينية والسياسية.

نظرا لعظمة رمسيس الثاني في التاريخ المصري، وأيضا لجمال وقوة تمثاله هذا المعروض في متحف تورينو بإيطاليا، فقد كرمته مصر بوضع صورة هذا التمثال على واحدة من أشهر العملات النقدية المصرية (فئة الخمسون قرشا).

نقل الآثار المصرية للخارج مسؤولية أخلاقية وقانونية:

تعتبر قصة وصول التمثال إلى تورينو قصة مثيرة للاهتمام وتعكس فترة من التاريخ حيث كانت الآثار المصرية تنقل بكثرة إلى أوروبا. في القرن التاسع عشر، كانت هناك موجة كبيرة من الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة في أوروبا، مما شجع العديد من المستكشفين والعلماء على جمع الآثار ونقلها إلى بلدانهم.

تثير قصة نقل الآثار المصرية إلى أوروبا العديد من الأسئلة حول المسؤولية الأخلاقية والقانونية، وحقوق الدول في الحفاظ على تراثها الثقافي. كما تسلط الضوء على أهمية حماية الآثار ومنع تهريبها.

في السنوات الأخيرة، زاد الوعي بأهمية الحفاظ على التراث الثقافي، وهناك جهود دولية لإعادة الآثار المسروقة إلى بلدانها الأصلية.

 

دكتور قاسم زكى؛

 أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،

عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى