مقالات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (20)… حجر رشيد…مفتاح الحضارة المصرية القديمة

استعرضنا في المقالة السابقة (المتاحف العالمية بالخارج التي تحوي أثار مصرية)، ضمن سلسلة مقالات اسبوعية حول تهريب الآثار المصرية، وبقي أن ننعش  ذاكرة القارئ بأهم القطع الأثرية المصرية التي هُربت للخارج وأوصافها وكيف خرجت وأين تعرض الأن.

حجر رشيد، ذلك الأثر الفريد، الذي لولاه لظلّت الحضارة المصرية القديمة لغزاً محيراً. فهو بمثابة مفتاح لفك رموز الكتابة الهيروغليفية، ونافذة تطلّ على أسرار الفراعنة. وهو يعتبر من أشهر النصوص الحجرية في العالم، فكان هو الاكتشاف الأكبر في طريق التعرف على الحضارة المصرية القديمة وأسرارها ولولاه لظلت الحضارة المصرية غامضة لا ندري عن أمرها شيئًا؛ لأننا لا نستطيع أن نقرأ الكتابات التي دونها المصريون القدماء على أثارهم.

وحجر رشيد هو حجر من أحجار البازلت الأسود “الجرانوديوريت” (غير منتظم الشكل ارتفاعه 113 سم وعرضه 75 سم وسمكه 27.5 سم؛ وقد فُقدت أجزاء منه في أعلاه وأسفله). ويعود تاريخ إنشاءه إلى عام 196 ق.م، ويذكر أن مناسبة كتابة الحجر، حين أراد كهنة مصر تمجيد أعمال بطليموس الخامس، فقاموا باحتفالات كبيرة لمبايعته وسجلوا تلك الأعمال على حجر رشيد، ويعتقد بأن الحجر كان له نسخ عديدة لكنها اندثرت ولم يبق منها إلا حجر رشيد.

اكتشاف حجر رشيد:

عُثر عليه بالقرب من مدينة رشيد المصرية (روزيتا “Rosetta”) في شمال مصر ، والتي تقع على بُعد 56 كيلو متر في الجهة الشماليّة الشرقيّة لمدينة الإسكندريّة ، وتقع رشيد على الضفة الغربيّة لفرع النيل الغربي (فرع رشيد). وكانت قوات الحملة الفرنسية تعسكر هناك في قلعة “طابية رشيد”. وأثناء أعمال الترميم والتحصينات التي قامت بها بالمكان عثر الضابط الفرنسي ” بيير فرانسوا بوشار” (PierreFrançois Bouchard؛ 1772م – 1822م) على هذا اللوح في يوم19 يوليو عام 1799م. ويرجح البعض أن اللوحة قد استخدمت في بناء القلعة في عهد السلطان قايتباي المملوكي (1416م-1496م)، وتم جلبها من مكان قريب من رشيد.

في عام 1800م قام علماء الحملة الفرنسية بنسخ الكتابات المسجلة على اللوحة، وإرسال تلك النسخ الشفافة إلى باريس، حتى يستطيع الباحثون هناك دراسة النقوش والكتابات. وبذا وصلت نسخة الى “شامبليون” واستطاع أن يفك رموزها. واعدت أيضا الحملة عدة نسخ حجرية ونسخ جصية مصبوبة بدأ تداولها بين المتاحف والعلماء الأوروبيين.

اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (19)… متاحف عالمية بالخارج تحوي أثار مصرية

ولكن في يوم2 أغسطس 1798م هُزمت القوات الفرنسية في معركة أبو قير البحرية على يد بريطانيا، وتوالت هزائم الحملة على يد الإنجليز والأتراك والثورات المصرية الشعبية مما جعل الحملة في وضع صعب، وطالبت بريطانيا والدولة العثمانية قائد الحملة “مينو” بالاستسلام. وبعد استسلام الفرنسيين للإنجليز (1801م)، رفض القائد الفرنسي “جاك مينو” تسليم الأبحاث باعتبارها ملك للمعهد الفرنسي، ولكن رفض الإنجليز هذا الأمر، وبعد مفاوضات وافق الإنجليز على اعتبار الأبحاث والعينات المتعلقة بالتاريخ الطبيعي ممتلكات شخصية للباحثين، لكن كانوا يعرفون قيمة حجر رشيد فأصروا على تسليمه لهم. وفي النهاية وصل إلى بريطانيا، وقدم هدية للملك جورج الثالث”. وتم عمل 4 نسخ منه للدراسة، وعرض في يونيو 1802م بالمتحف البريطاني ومازال يعرض حتى اليوم، وهو الأثر الأكثر زيارة في المتحف البريطاني.

محتوى حجر رشيد:

ويتضمن الحجر مرسوماً من الكهنة المجتمعين في مدينة منف ” ممفيس Memphis ” (ميت رهينة، مركز البدرشين، محافظة الجيزة حاليا، 19 كم جنوب القاهرة) يشكرون فيه الملك بطليموس الخامس “إبيفانس” حوالي عام 196 ق.م لقيامه بوقف الأوقاف على المعابد وإعفاء الكهنة من بعض الالتزامات، وسُجل هذا المرسوم بخطوط ثلاثة للغتين مختلفتين، هي: المصرية القديمة) الهيروغليفية المصرية)، والديموطيقية، ثم اليونانية القديمة؛ حسب ترتيب كتابتها من أعلى إلى أسفل.

***

وبعد نقل الحجر إلى القاهرة أمر “نابليون بونابرت” بإعداد عدة نسخ منه لتكون في متناول المهتمين بالحضارة المصرية في أوروبا بوجه عام وفي فرنسا بوجه خاص. بدأ الباحثون بترجمة النص اليوناني، وأبدى الباحثان “سلفستر دي ساسي” و”أكربلاد” اهتماماً خاصًّا بالخط الديموطيقي.

حاول الفرنسي «دي ساسي» عام 1802م، ومن بعده الإنجليزي «توماس يونج» عام 1814م تفسير رموز الهيروغليفية اعتماداً على مقارنة النصوص الثلاثة لحجر رشيد، ومع أن جهودهما باءت بالإخفاق لكنهما خرجا ببعض الملاحظات التي أفاد منها شامبليون فيما بعد، من قبيل أن الأسماء الملكية التي كانت تحاط بإطار (خرطوش) يميزها من بقية النص.

اخترنا لك: اقرأ في العدد الجديد من نشرة غذائي (88) ..إعلان برنامج رد الأعباء التصديرية الجديد خلال أيام

ورغم كل الجهود السابقة في فك رموز حجر رشيد إلا أن الفضل الأكبر يرجع للعالم الفرنسي “جان فرانسوا شامبليون” (1790م-1832م) مسئول قسم الأثار المصرية بمتحف اللوفر. فقد استطاع شامبليون فك رموزه لأنه كان يعرف اللغة القبطية فطابقها باللغة اليونانية الموجودة على الحجر ثم ميز أسماء الحكام البطالمة المكتوبة باللغة العامية المصرية واستطاع أن يحصل على عدة حروف وعن طريق مضاهاتها ببعض أسماء أخرى وصل إلى أبجدية الحروف القبطية وبالتالي أبجدية الحروف الهيروغليفية التي كان يستخدمها فراعنة مصر. وقد استفاد شامبليون من محاولات من سبقوه ومنهم عشرات من العلماء العرب والمسلمين. وهكذا وضع “شامبليون” اللبنات الأولى في فك رموز اللغة المصرية القديمة. وبمعرفة اللغة المصرية القديمة بدأ الغموض ينجلي عن الحضارة المصرية وأخذ علم المصريات يشق طريقه بقوة بين العلوم الأخرى.

جهود مصر لاسترداد حجر رشيد من بريطانيا:

وما برحت مصر في الفترة الأخيرة تحاول استرداد قطعها الأثرية الهامة من المتاحف العالمية ويأتي على رأس هذه الأولويات بعض القطع منها حجر رشيد. ففي عام 2009م طلب الدكتور زاهي حواس الذي كان يشغل منصب رئيس المجلس الأعلى للأثار في ذلك الوقت، من المتحف البريطاني استعارة حجر رشيد لمدة 3 أشهر لعرضه في افتتاح المتحف المصري الكبير (The Great Egyptian Museum) والذي كان المقرر له عام 2013م، ولكن في حينها جاء رد المتحف البريطاني بأنه يجب أن تبقى القطع التي يمتلكها المتحف كما هي في منظومة العرض، وسيتم دراسة الطلب الذي تقدمت به مصر باستعارة القطعة الأثرية، ولم يأت الرد مطلقا.

وفي ظل اتفاقية اليونسكو 1970م، التي لا تمكن مصر من استرداد أثارها التي خرجت قبل هذا التاريخ، فيصعب هذا الأمر، ولكن مازالت لجنة استرداد الأثار المهربة (أسست عام 2002م)، تدرس ملف استرداد القطع الأثرية، وقد حققت بعض النجاحات، وننتظر المزيد.

دكتور قاسم زكى؛

 أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،

عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى