مقالات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (5)..”باسر” و “باورو” حكام طيبة وسرقة المقابر الملكية

ذكرنا في الحلقة الرابعة (لصوص آثار مصرية ولكنهم فراعنة) أن أثناء قوة الدولة كانت عمليات السطو على المقابر شيئا نادرا وبسيطا، وكان هذا أثناء عهد الأسرتين الثامنة عشر والتاسعة عشر (1570-1180 ق.م)، وهو العصر الذهبي للإمبراطورية المصرية. لكن إنتشرت سرقة المقابر في مصر القديمة حين  فسد الجهاز الحكومي، وانهارت منظومة “الحقيقة والعدالة” التي جسدتها الإلهة “ماعت”، ربة العدل التي حفظت الفكر المصري من الفساد الأخلاقي والديني. كما تراجع الوازع الديني على مستوى الطبقة الشعبية بعد أن رصد البسطاء فساد الكهنة وتكالبهم على نهب ثروات المعابد، بل وصل الأمر إلى حد اشتراك بعض الكهنة في سرقات المقابر، كما ورد في بردية “هاريس” المحفوظة في المتحف البريطاني. انتشرت تلك الأفة مع تبدى ضعف الأسرة العشرين حين ضعفت قبضة الفراعنة، فزادت حوادث السطو والنهب حتى على المقابر الملكية نفسها، كالحادثة الشهيرة التي جرت وقائعها إبان حكم رمسيس التاسع (1142-1123 ق.م) وارتبط بها اثنان من كبار الموظفين “باسر” و “باورو” حكام طيبة، كما سنرويها في هذه الحلقة.

اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (4)… لصوص آثار مصرية لكنهم فراعنة

فهناك سجلات شيقة حول سرقات المقابر من العصور القديمة. وتشير إحداها إلى قيام القاضي بقاعة المحاكمة بسؤال اللص قائلا: “لماذا قمت بالسرقة من مقبرة الفرعون؟»، فأجاب اللص: «الكل يقول إن الفرعون هو إله، فلماذا لم يمنعني من السرقة من مقبرته؟!”.

وقد كُتب في أحد السجلات الشيقة الأخرى والخاصة بسرقة إحدى مقابر مصر القديمة على برديتين نعرفهما باسم برديتي أبوت (Abbott) وأمهرست (Amherst)، وترجعان إلى حكم رمسيس التاسع في عهد الأسرة العشرين في نهاية الدولة الحديثة (1188 -1186 قبل الميلاد)، ترويان قصة الصدام بين رجل أمين يدعى «باسر» حاكم البر الشرقي لطيبة (الأقصر حاليا) ورجل مرتش معدوم الضمير يدعى «باورو»، وهو حاكم البر الغربي لطيبة. وكان باورو مسؤولا عن حماية مقابر الملوك والملكات ومقابر النبلاء والموظفين، إلا أنه ورئيس الشرطة تورطا في مؤامرة لسرقة كنوز تلك المقابر وقاما برشوة الجميع ليشتروا صمتهم.

الرجل الشريف سمع عن الفساد

إلا أن “باسر” الرجل الشريف قد سمع عن هذا الفساد، وأعد تقريرا حول السرقات ورفعها للسلطات، كما رفع تقريرا رسميا للوزير ينص على أن “باورو” متورط في سرقة الكثير من المقابر، كما أنه يزعج سلام الفراعنة. ولكن وللأسف، فقد شكل الوزير لجنة مكونة من رجال غير أمناء مالوا بولائهم لحاكم البر الغربي، وخرجت اللجنة بتقرير كاذب للوزير يقر بأن جميع المقابر في حالة جيدة وجميع الأختام سليمة ولم يسرق منها أي شيء. وبعدها سار “باورو” ورجاله في موكب إلى البر الشرقي محتفلا بانتصاره ونكاية في غريمه “باسر”، لأنه ورجاله قد ظهروا أبرياء أمام الجميع.

اخترنا لك الدكتور تميم الضوى يكتب.. فرص واعدة للصادرات المصرية من البطاطس المجمدة

ولم يصدق “باسر” أن اللجنة قد كذبت وخرجت بتقرير كاذب. وقام بكتابة تقرير أخر للوزير في بادئ الأمر ذكر فيه أن “باورو” قد شارك في موكب احتفالي ضده، كما كتب للفرعون يصف اللجنة بأنها غير صادقة وقد تمت رشوتها. هنا شكل الفرعون لجنة جديدة من رجال ليس لهم علاقة “بباورو”، كما يصعب عليه هو أو رجاله رشوتهم. وذهبت اللجنة إلى وادي الملوك ومواقع أخرى وقاموا بفتح الكثير من المقابر، وأصابتهم الصاعقة عندما وجدوا أن معظم تلك المقابر قد سُرقت (مثل مقبرة “سخم رع- شدتاوي- سوبك إم ساف”، من ملوك الأسرة ال17، ومقبرة الملكة “إيزيس” زوجة الملك رعمسيس الثالث).  وأخبرت اللجنة الثانية الصادقة الفرعون بحقيقة الأوضاع، وأدانوا اللص “باورو” ورجاله وكافة المرتشين، والذين نالوا ما يستحقون من العقاب.

والغريب أن تلكما البرديتين اللتين تحكيان قصة تلك السرقة، كلتاهما سرقتا من مصر، ومنشورتين في سجل البرديات المختارة التابعة للمتحف البريطاني لندن.

المجوهرات والزيوت الثمينة لا تقاوم

وطيلة آلاف السنين يختبئ اللصوص بتلال الصحراء، والتي تخفي المقابر الكثيرة المليئة بالذهب والفضة مستغلين ظلمة الليل البهيم للقيام بسرقة المقابر الملكية. فقد كانوا دائما متخوفين من أن تقوم شرطة الجبانة بالقبض عليهم، أو التي لم تتوان عن استخدام وسائل التعذيب للحصول على اعترافاتهم، إلا أن الكنوز الذهبية والمجوهرات والزيوت الثمينة لا تقاوم.

فقد دفع الجشع بعض عمال المقابر أنفسهم للسرقة؛ هؤلاء العمال الذين كُلفوا بزخرفة وتزيين المقابر “لما كان لدي المصريين القدماء من إيمان راسخ بالخلود في الحياة الأخرة”. فقد روت لنا أنباء قضية سرقة المقابر الكبرى التي جرت وقائعها أيضا في فترة حكم الملك رمسيس التاسع، وتمت فيها محاكمة اللصوص ومعاقبتهم أيضا، ولعلها حوادث عادية كالتي تجري في كافة المجتمعات في يومنا هذا. وهذا يدلنا أن عمليات السرقة والنهب قديمة قدم الحضارة الفرعونية نفسها.

هذا عن سرقة الفراعنة لقبور ملوكهم قبل الميلاد، وفى الحلقة القادمة نروي سرقات الغزاة الأجانب لتراث مصر حين احتلوها وسيطروا على مقدراتها؛ فإلى اللقاء بإذن الله تعالى.

دكتور قاسم زكى؛

 أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،

وعضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى