الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(13)… تهريب وتجارة المومياوات المصرية

كان التحنيط في مصر القديمة فنًا دقيقًا، شبيهًا بصناعة تحفة فنية فريدة. فقد كان المصريون القدماء يعتقدون أن الحفاظ على الجسد سيمكن الروح من العودة إليه في الحياة الآخرة، لذا كانوا يبذلون قصارى جهدهم لتحنيط موتاهم بطريقة تضمن بقاء أجسادهم سليمة لآلاف السنين. كانت عملية التحنيط معقدة وطويلة، تبدأ بإخراج الأعضاء الداخلية وتنظيفها، ثم تغليف الجسد بمواد كيميائية طبيعية لحمايته من التعفن، وأخيراً لفّه بأشرطة من الكتان المغموسة في الراتنج.
تاريخ التحنيط في مصر القديمة:
بدأ التحنيط منذ الأسرة الثانية (حوالي 2800 قبل الميلاد)، وكانت طرق التحنيط معقدة للغاية؛ ولم يكن كل المصريين القدماء قادرين على تحمل تكاليف تحنيط موتاهم. كشفت الحفريات الأثرية الأخيرة عن ورش تحنيط، مما أتاح للعلماء فرصة فريدة لدراسة أسرار عملية التحنيط. تم التعرف على العديد من المواد المستخدمة، مثل النطرون والراتنجات، ولكن تحديد النسب الدقيقة لهذه المواد لا يزال محل بحث ودراسة..
أهمية المومياوات في الثقافة المصرية:
إن المومياوات المصرية ليست مجرد لفائف من قماش الكتان تلف بها الأجساد الميتة فقط. ولكنها طريقة لوجود بيوت دائمة للأرواح. وكان المصريون يدفنون في المقابر المشيدة. وتوقف المصريون تماما عن صنع المومياوات عندما اعتنق العديد منهم المسيحية. من المقدر أنه على مدى فترة 3000 عام، تم تحنيط أكثر من 70 مليون مومياء في مصر. وحاليا هناك 64 مجموعة من المومياوات المصرية تعرض في متاحف 14 دولة حول العالم.
طرق تهريب المومياوات والجهود المبذولة لاستعادتها:
في العام 2019م تمكنت الوحدة الأثرية بقرية البضائع بمطار القاهرة الدولي، من ضبط أجزاء لمومياوات داخل أحد الطرود أثناء محاولة تهريبها إلى خارج مصر. بعض المومياوات الموجودة في المتاحف الأوربية، جرى بيعها أو تهريبها قبل صدور القانون 117 لسنة 1983م، إلا أن ما خرج منها بطريقة شرعية لا يمكن استرداده، وأنه حال إثبات أي قطعة أو مومياء خرجت قبل هذا التاريخ بطرق غير شرعية يمكن المطالبة بها، طبقا لاتفاقية اليونسكو 1970م. فمثلا وزارة الآثار المصرية استردت في عام 2015م “هيكل نزلة خاطر” أقدم هيكل عظمي من بلجيكا عثرت عليه البعثة العلمية البلجيكية عام 1980م بنزلة خاطر بسوهاج، وهو لأقدم إنسان عاش في مصر، كما استردت قبلها إحدى المومياوات من الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003م.
استخدامات مختلفة للمومياوات المصرية بالخارج:
كان استخدام المومياوات في الطب معروفا منذ القدم وقد استخدمه العرب في العلاج منذ القرن الحادي عشر الميلادي، وذلك باستخدام القطران الموجود في تجاويف الجثث، لذا انتشرت تلك التجارة الرائجة واقبل عليها الأوروبيون خلال الستة قرون التالية لذلك. وفى القرن السادس عشر الميلادي كانت المومياوات ومستخرجاتها تستخدم ضمن العقاقير الطبية وكان القار (القطران) الشرقي مشهورا في علاج الجروح والكدمات والغثيان والكسور وغيرها في أوروبا، وكان هذا القار يشبه ما كان يستخدمه المصريون القدماء في تحنيط الجثث، وكان يوضع في تجاويف المومياوات. وحين كان يشح القار في الأسواق كانوا يستخدمون لحوم المومياوات نفسها في العلاج. وانتشرت تجارة المومياوات من مصر إلى أوروبا وكانت تدر ربحا خياليا وذلك من اجل العلاج، ولم تتوقف عملية العلاج على فئة معينة فكان الجميع يسعى ورائها. فمثلا كان فرنسيس الأول ملك فرنسا (حكم فرنسا ما بين 1515م – 1547م)، يحرص باستمرار على حمل لفافة صغيرة من مسحوق مومياء للطوارئ. لذا استمرت تلك التجارة (غير الشرعية) حتى القرن التاسع عشر وأتت فترة فرضت الحكومات المصرية الضرائب على تلك التجارة ومنعت تصدريها إلى الخارج. ومن المفارقات أن تلك التجارة استمرت حتى سبعينات القرن العشرين، فكانت هناك سوق منظمة للمومياوات وان كانت محدودة وتستعمل في السحر والشعوذة، وكانت الأوقية من مسحوق المومياء المصرية الأصلية تباع بأربعين دولارا أمريكيا في بعض الصيدليات.
عموما كان في العصور الوسطى يُعتقد أن المومياوات تمتلك خصائص علاجية؛ ونتيجة لذلك أصبح من الشائع طحن المومياوات المصرية إلى مسحوق لبيعها واستخدامها كدواء لاحتوائها على القار (البيتومين). وقيل إن المومياوات المصرية لها الكثير من الخصائص العلاجية مثل علاج الكدمات ومنع النزيف، بل اعتقد البعض أن عظام المومياوات تعمل على زيادة القدرة الجنسية، فكانوا يصنعون منها منشطات جنسية، لذا ظل الطلب مرتفعًا على المومياوات في أوروبا وكان من الممكن شرائها بمبالغ مرتفعة. وتطورت هذه الممارسة إلى تجارة واسعة النطاق ازدهرت حتى أواخر القرن السادس عشر. كما استفاد الفنانون من المومياوات المصرية، فابتكروا صبغة بنية اللون يتحصل عليها بطحن المومياوات المصرية البشرية والحيوانية؛ وكانت الأكثر شيوعًا في القرن السابع عشر، ولكن تم إيقافها في أوائل القرن التاسع عشر عندما أصبح تكوينه معروفًا بشكل عام للفنانين الذين استبدلوا الصباغ المذكور بمزيج مختلف تمامًا.
مومياوات ليست للعلاج إنما للفرجة؟
وبحلول القرن التاسع عشر، لم يعد الناس يتناولون المومياوات لعلاج الأمراض. لكن كان الأرستقراطيون الأوروبيون يسلون أنفسهم أحيانًا عن طريق شراء المومياوات وعقد جلسات المشاهدة لفكها. فكان فتح المومياوات المصرية مشهدًا شائعًا في بريطانيا؛ وقد دمرت جلسات الفتح هذه مئات المومياوات؛ ذلك لأن التعرض للهواء تسبب في تفككها. ومن أغرب الاستخدامات للمومياوات عرضها كديكور في منازل الشخصيات البارزة، سواء داخل المنزل أو المحلات التجارية والمراسم لجذب الزوار.
مومياوات كوقود وأخرى كسماد للأراضي:
والأغرب هو توثيق استخدام المومياوات كوقود للقاطرات؛ بل خلال الحرب الأهلية الأمريكية قيل إن أغطية المومياء كانت تستخدم لتصنيع الورق. وعلى الرغم من حقيقة أن المومياوات لم تحصل على الاحترام في كثير من الأحيان في القرن التاسع عشر، فلا يوجد دليل دامغ على بعض هذه الممارسات. وحسب ما ذكرت مجلة “ناشيونال جيوجرافى” في عددها الصادر فى نوفمبر 2009م، أنه جرى نقل نحو 180 ألفا من مومياوات القطط عن طريق السفن إلى إنجلترا عام 1888م، حيث استخدمت هذه المومياوات بعد ذلك كأسمدة في الحقول.
ملايين المومياوات هربت للخارج:
واتجه المغامرون الأوائل إلى سرقة المومياوات التي وجدوها أمراً متاحاً وسهلا، فكانت تُعرض في الأسواق، وأحصى بعض العلماء ومنهم «صموئيل بيرش» الأمين السابق للقسم الشرقي بالمتحف البريطاني عددها بـ٤٢ مليون مومياء، خلال ٢٧٠٠ سنة، من التاريخ المصري، وعلماء آخرون قدروا عددها ٧٣١ مليونا، فتاريخ مصر أقدم من ذلك. ومن الثابت أنه كان يخرج من مصر قرابة عشرة آلاف طن سنوياً من المومياوات (خاصة خلال القرن الثامن عشر) إلى الخارج وأغلبها إلى بريطانيا، وبجانب استخدامها في العلاج، استخدمت أيضا (للأسف) في تخصيب الأراضي الزراعية كسماد وزيادة إنتاجيتها.
ربما يتساءل البعض عن عدد المومياوات الملكية الفرعونية التي تم العثور عليها في المجمل. فتاريخيا كان هناك حوالي 170 ملكا فرعونًا من 30 أسرة ملكية، ولكن في المجمل تم العثور على حوالي 62 مومياء ملكية فرعونية فقط. بعضهم لم يكن موجودًا حتى في وادي الملوك، وبعضهم خارج المقبرة العظيمة. وحتى يومنا هذا مازال اكتشاف مومياوات جديدة مستمرا، فقد أعلن علماء الآثار إنهم عثروا (في 2023م) في سقارة على مومياء مغطاة بأوراق الذهب داخل تابوت لم يُفتح منذ 4300 عام. ويُعتقد أن المومياء، هي بقايا لرجل يُدعى “هيكاشيبس”، وهي واحدة من أقدم وأكمل الجثث غير الملكية التي عُثر عليها في مصر على الإطلاق.
دكتور قاسم زكى؛
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر