الدكتور قاسم زكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(56) … التابوت الأخضر: أثر فرعوني يهزم التهريب الدولي

لم تتوقف قضايا تهريب الآثار المصرية يومًا، فكلما أُغلقت قضية، ظهرت أخرى، حتى امتلأت متاحف العالم بكنوز مصرية وصلت إليها بطرق غير مشروعة. من أبرز تلك القضايا في السنوات الأخيرة، قضية “التابوت الأخضر”، الذي اختفى من مصر في أعقاب ثورة 2011م، ليظهر لاحقًا في الولايات المتحدة، قبل أن يُسترد في أوائل عام 2023م.
تابوت فرعوني نادر:
يعود “التابوت الأخضر” إلى العصر الفرعوني المتأخر ( 664 ق.م – 332 ق.م)، تحديدًا إلى أسرة كاهن يُدعى “عنخ إن ماعت”، وكان يخدم في مدينة هيراكيوبوليس (نخن القديمة)، الواقعة شمال إدفو. يتميز التابوت بلونه الأخضر الزاهي وزخارفه المذهّبة، ويبلغ طوله نحو 3 أمتار، ووزنه نصف طن، وهو عبارة عن غطاء فقط دون القاعدة، ما يرجّح أنه كان يحتوي على تابوت داخلي أصغر يحوي المومياء.
وقد أُطلق عليه لقب “الأخضر” بسبب لون وجهه، إذ كان اللون الأخضر رمزًا للحياة والتجدد في المعتقدات المصرية القديمة. ويُعدّ هذا الغطاء من أكبر ما تم اكتشافه، إذ يصل طوله إلى 2.94 م، وعرضه 90 سم، ويزن نحو 500 كجم.
قصة التهريب والاسترداد
بحسب تصريحات الدكتور مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار السابق، فقد اختفى التابوت من مصر خلال أحداث 2011م، ويُعتقد أن شبكة دولية لتهريب الآثار قامت بسرقته وتهريبه إلى خارج البلاد. وتشير التحقيقات إلى أن التابوت خرج إلى ألمانيا، ثم نُقل إلى الولايات المتحدة عام 2008م، أي قبل الثورة، ما يثير تساؤلات حول دقة التواريخ المعلنة. الاستنتاج الأكثر دعمًا بالدليل الموثّق هو أن التهريب تم في 2008م، بينما ربطته بعض المصادر بظروف 2011م يعكس منظورًا زمنيًا مختلفًا (بداية تتبّع القضية أو الكشف عنها)، وليس وقت الخروج الحقيقي من مصر.
في عام 2013م، أُعير التابوت من قبل أحد هواة جمع الآثار إلى متحف هيوستن لعلوم الطبيعة، حيث عُرض هناك علنًا. وقد كشف مكتب النائب العام في مانهاتن لاحقًا أن التابوت قد نُهب من مقبرة شمال أسوان، وبيع بطريقة غير مشروعة. وبتعاون بين الجهات الأمريكية والمصرية، تم تعقب مصدره واسترداده رسميًا بعد سلسلة من التحقيقات.
مراسم الاسترداد
في الأول من يناير 2023م، تسلمت مصر رسميًا التابوت الأخضر خلال مراسم أقيمت بمقر وزارة الخارجية المصرية. حضر الحفل وزير الخارجية الأسبق سامح شكري، ووزير السياحة والآثار آنذاك الدكتور أحمد عيسى، إلى جانب القائم بأعمال السفارة الأمريكية في القاهرة، والدكتور مصطفى وزيري.
وتم خلال الحفل توقيع محضر استلام الآثار المستردة من الولايات المتحدة، والتي بلغ عددها 17 قطعة أثرية، كان التابوت الأخضر أبرزها. وقد أوضح الدكتور وزيري أن حالة التابوت كانت سيئة للغاية وتستلزم تدخلًا عاجلًا لترميمه، مما استدعى نقله إلى المتحف المصري بالتحرير للبدء في أعمال الصيانة والترميم الدقيقة.
لجنة علمية لاختيار مكان العرض:
بعد استرداد “التابوت الأخضر” في يناير 2023م، تم نقله إلى المتحف المصري بالتحرير (بوسط القاهرة) لخضوعه لأعمال صيانة وترميم دقيقة تحت إشراف خبراء آثار. يُنتظر أن يظل في مكانه بالمتحف ريثما تنتهي عمليات الترميم، ثم تُحدد لجنة متخصصة وجهة عرضه النهائية أمام الجمهور سواء كان في التحرير أو ضمن قاعات جديدة في المتحف المصري الكبير.
كما تم الإعلان عن قرب استرداد قطع أثرية أخرى خرجت من مصر بطرق غير شرعية، مما يعكس تطور التعاون الدولي في ملف استعادة الآثار المنهوبة.
لماذا استهدف المهربون هذا التابوت؟
القطع الأثرية المصرية تتمتع بقيمة عالية في السوق السوداء، خاصة تلك التي تنتمي لعصور قديمة وتتميز بزخارف فريدة وحجم كبير مثل التابوت الأخضر. كما أن إمكانية تهريب القطع الأثرية الصغيرة في الحقائب أو عبر الشحن الدولي تُمكّن المهربين من تنفيذ عملياتهم بسرية وسهولة نسبيًا.
وفي ظل الأزمات الأمنية، مثل التي شهدتها مصر بعد عام 2011م، انتشرت عصابات التنقيب والتهريب، خاصة في المناطق الأثرية غير المؤمّنة، مما أتاح الفرصة لسرقة قطع نادرة كهذا التابوت.
أهمية التابوت من الناحية الأثرية:
يمثل التابوت الأخضر نموذجًا مهمًا لفن صناعة التوابيت في أواخر العصر الفرعوني، حيث تتداخل فيه الزخارف الهيروغليفية مع الرموز الدينية، ويُظهر مهارة الفنان المصري القديم في استخدام الألوان والمعادن، خاصة اللونين الأخضر والذهبي، اللذين ارتبطا بالحياة الأبدية والتجدد.
كما أن النصوص الهيروغليفية المنقوشة على التابوت تقدم معلومات عن الطقوس الجنائزية والمعتقدات الدينية في تلك الحقبة، مما يجعله مصدرًا علميًا هامًا للباحثين في علم المصريات.



