الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (17)… تطور قوانين حماية الآثار المصرية

تهريب الآثار المصرية..زاد ضيق المصريون بسبب انتهاك حرمات وطنهم والعبث في تراث أجدادهم، وخاصة مع تنامى الشعور الوطني والصحوة التي عمت البلاد مع قدوم أبنائها المتنورين ثقافيا من أوروبا، مع بعثات محمد على باشا. وكان عرض أثار مصر المنهوبة في أوروبا أيضا هو المنبه الذي أيقظ الرأي العام العالمي لضرورة وضع حد لنزيف الآثار المصرية لأنها ملك للإنسانية جمعاء. ويمكن رصد تبرم المصريين من بيان طويل أرسلته لجنة الدفاع الوطني المصرية للمصريين المقيمون في ألمانيا, ونشرته الأهرام في عددها الصادر يوم 22 يوليو عام1922م, وجاء تحت عنوان “إلى متي يبقي تراث أجدادنا الفراعنة حلا لكل سالب؟”.
العبث بالآثار حيث لا قانون:
ومن خلال ما استعرضناه في 16 مقالا سابقا، نلمس ما تعرضت له الآثار المصرية من نهب وسرقة وتهريب وتخريب، ويتضح انه لم يكن هناك أي قوانين تنظم عملية التنقيب عن الآثار أو التجارة فيها، لذا انتشرت عمليات التنقيب والنهب والسرقة والتدمير والتجارة في الآثار، بل وتهريبها للخارج. هذا دفع أبناء مصر والمخلصين من علماء المصريات الأجانب بمطالبة حكامها لسن قوانين لحماية الآثار.

فرمانات أسرة محمد علي:
فكان أول الخيط هو مرسوم أو فرمان محمد على باشا (15 أغسطس/آب من عام 1835م) والذي ينظم التنقيب والتجارة للأثار المصرية (بتزكية من عالم المصريات “شامبليون” أثناء زيارته لمصر 1828م-1829م)، ذلك الفرمان الذي في زمنه كان يعد طفرة حقيقية في هذا المجال. حيث كان يحظر قيام الأفراد بالبحث والتنقيب عن الآثار المصرية، ونص على إنشاء دارا لحفظ الآثار المكتشفة والتي تملكها الدولة، بل وتجريم تحطيم الآثار أو تخريبها وضرورة المحافظة عليها. لكن وللأسف لم يجد هذا القانون وسيلة لتنفيذه، بل لم يعبأ به ولاة الأمور أنفسهم آنذاك.
اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(16)… حكام مصر وتهريب الآثار المصرية
وفي مارس/آذار 1869م، في عهد الخديوي إسماعيل (حكم مصر من عام 1863م إلى 1879م)، صدرت لائحة الأشياء الأثرية تضم 7 مواد تحظر إجراء أي حفائر أو تصدير المكتشف منها، إلا بترخيص رسمي من وزارة الأشغال العمومية (حيث كانت تتبعها مصلحة الآثار المصرية آنذاك). وفي عام 1874م صدرت لائحة جديدة (في عهد إسماعيل أيضا) سمحت بنظام قسمة الآثار التي يتم اكتشافها، وبموجب هذه اللائحة، تقسم الآثار إلى قسمين متساويين، أي 50% لكل طرف (المنقبون والحكومة المصرية)، وفي عام 1880م أصدر الخديوي توفيق (حكم مصر من عام 1879م إلى 9218 م) مرسوما بحظر تصدير الآثار نظرا لتزايد أعداد الأجانب الذين يغادرون مصر محملين بقطع أثرية.
وفي عهد الخديوي عباس حلمي الثاني (حكم مصر من 1892م إلى 1914م) صدر القانون الذي يحمل رقم 14 لحماية الآثار في العام 1912م، ويتضمن تعريفا للأثر وضوابط تداوله وعقوبات لمخالفة أحكامه، واستبعد المشرّع منها جميع الآثار الإسلامية من التصدير للخارج.
سرقات مشروعة بالقانون:
وفي نهاية عهد أسرة محمد على، صدر القانون رقم 215 (عام 1951م) في نهاية عهد الملك فاروق الأول (1936م-1952م)، إذ بلغت عمليات تجارة وتهريب الآثار أوجها آنذاك. ووضع هذا القانون بغرض وضع إجراءات عملية حاسمة للقضاء على تجارة الآثار غير المشروعة، ولكن للأسف شجعت نصوصه على التهريب والسرقة والاتجار، بل والسماح في بعض الأحيان، وبموافقة رسمية، أن تصل نسبة قسمة الآثار مع البعثات الأجنبية، إلى 100 في المئة، والغريب أن مصر ظلت مستباحة بهذا القانون طوال عهدي الرئيسين: جمال عبد الناصر، ومحمد أنور السادات، ولم يتغير ذلك، إلا في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، عام 1983م.
اخترنا لك : م.محمود كمال حسن يكتب ..الصقيع وأشجار المانجو: هل نحن مستعدون لمواجهة الخطر؟
وأخيرا قانون حازم:
وفي العهد الجمهوري، صدر أول قانون متكامل لحماية الآثار يمكننا أن نقر به انه القانون رقم 117 لسنة 1983 (قانون حماية الآثار) والذي صدر برئاسة الجمهورية (عهد محمد حسنى مبارك) في 27 شوال سنة 1403 هـ ” 16 أغسطس سنة 1983م؛ الذي حظر الاتجار في الآثار، وخفض النسبة التي تحصل عليها البعثات الأجنبية من الآثار المكتشفة إلى 10% بشرط التكرار، ولأغراض البحث العلمي والعرض المتحفي فقط. وفي فبراير/شباط 2010 تم تعديل القانون لتصبح جميع الآثار المكتشفة ملكا للدولة.
ترقيع ثقوب القانون:
ورغم هذا فإن القانون رقم 117 لسنة 1983 شابه بعض القصور، مما حدي بالحكومات المصرية المتتابعة إلى إدخال عدة تعديلات عليه بقوانين لاحقة في عهد حسني مبارك أيضا، منها القانون 12 لسنة 1991م، ثم القانون رقم 3 لسنة 2010م، ثم أخيرا القانون الكامل رقم 91 لعام 2018م (عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي)، والذي عالج العوار الموجود في القانون الأساسي (117 لعام 1983م) ومنع التنقيب غير المرخص والاتجار والتصرفات بالبيع والشراء نهائيا، مع تغليظ العقوبات وتشديدها لتتلاءم والتطور الحادث في العالم.
والنهاية قانون حاسم جدا:
في القانون 91 لعام 2018 تم تغليظ عقوبات نهب وتهريب الآثار، لتصل عقوبة القيام بأعمال التنقيب عن الآثار دون ترخيص إلى السجن مدة تتراوح بين 3 و7 سنوات، وبغرامة تتراوح بين نصف مليون ومليون جنيه، في حين تصل عقوبة تهريبها للخارج إلى السجن المؤبد وغرامة لا تقل عن مليون جنية ولا تزيد على 10 ملايين جنيه.
السرقات المشروعة:
ويتضح أن القوانين التي صدرت في باكورة تلك المحاولات لم تكن كافية بل أحيانا تقنن السرقات. فمثلا مرسوم محمد على باشا (15 أغسطس/آب من عام 1835م،) احتوى على 3 مواد فقط، الأولى وصفت الآثار برائعة القرون الماضية، والثانية بضرورة تجميع الآثار، وما ينتج مستقبلا من الحفائر في مكان خاص بمدينة القاهرة، والأخيرة نصت على الحظر المطلق لتصدير الآثار في المستقبل، لكن تلك القرارات لم تكن كافية لمنع عمليات السرقة، بل لم تلق الاعتبار حتى ممن أصدروها، فكانوا هم أول من خرقها.
قواعد صارمة لحماية الآثار المصرية:
لكن مع تقدم السنوات وتراكم الخبرات زادت كفاءة قوانين حماية الآثار. فها هو القانون الأخير رقم 91 لعام 2018؛ قد عالج كثير من العوار فيما سبقه من قوانين فهو يهدف إلى تعزيز حماية التراث المصري وتعزيز الإجراءات القانونية لمكافحة تهريب الآثار والتعدي عليها. ويعتبر خطوة مهمة في الحفاظ على الهوية الثقافية لمصر وحماية تراثها الحضاري العريق. وزاد القانون من العقوبات على جرائم سرقة وتهريب الآثار، وجعلها عقوبات رادعة تصل إلى الحبس المؤبد والغرامات المالية الكبيرة. وهدف القانون إلى تسهيل إجراءات استرداد الآثار المصرية المهربة من الخارج، والتعاون مع الدول الأخرى في هذا الشأن. ووضع القانون قواعد صارمة لتنظيم أعمال التنقيب الأثري، وضمان أن تتم هذه الأعمال بشكل علمي ومنظم. وشدد القانون على حماية المناطق الأثرية من التعديات والتلوث، ووضع إجراءات لحماية الزوار والسائحين. كما عمل القانون على تعزيز التعاون الدولي في مجال حماية الآثار، وتبادل المعلومات والخبرات.
ومع كل تلك المشاكل السابقة، لم تظهر مصلحة حكومية لرعاية الآثار المصرية إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي موضوعنا للمقالة التالية.
دكتور قاسم زكى؛
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر