مقالات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(16)… حكام مصر وتهريب الآثار المصرية

تهريب الآثار المصرية.. تعاقب على حكم المحروسة مئات من الملوك والسلاطين والولاة والأمراء والرؤساء عبر تاريخها الطويل والذي يصل بجذوره لأعمق من سبعة آلاف عام، وتتفاوت قدرتهم وقوتهم وأمانتهم وثقافتهم وتفانيهم في حب مصر من واحد إلى أخر، ولكن يهمنا هنا دورهم في الحفاظ على الأثار المصرية. وقديما قالوا (الناس على دين مُلوكهم) فالطبقات الدنيا في المجتمعات أكثر تأثراً بحكامها؛ فحين يكون الحاكم مهتم بشئون شعبة وتراثه وممتلكاته ينتقل هذا الإحساس لجميع فئات المجتمع. ونظرا لطول فترات التاريخ المصري ومئات من اعتلوا عرش المحروسة، فيصعب علينا مراجعة دور كل حكام مصر في الحفاظ أو ضياع الأثار المصرية في مقالة واحدة.

اخترنالك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(15)…طرق تهريب الأثار المصرية وتأثيرها علي الدولة

لعلنا هنا يجب أن نذكر دور الحكام الذين عاصروا الفترة التي هبط فيها الأوربيون على ارض الكنانة وبدأوا ينهبون مصر بكل ما تعنى الكلمة. لذا نركز على دور الحكام منذ تولى محمد على باشا الحكم في عام 1805م، مرورا بكل أفراد عائلته العلوية، ثم نكمل مع أبناء مصر الذين حكموها منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952م. وإنما سنذكر الأعمال الواضحة في هذا الدرب الطويل والذي سيمتد معنا لأكثر من قرنين من الزمان.

تراث مصر نهبا للأجانب:

الأهرامات

وفى ذلك الوقت عين الباب العالي في إستانبول “محمد على باشا” (1769م-1849م) واليا على مصر، والذي بدأ استراتيجية سياسية جديدة كان أساسها أن تنفتح مصر على العالم الغربي. وهنا دلف الأوربيون من كل صوب وحدب وبمختلف مشاربهم وانتماءاتهم بل وثقافاتهم وطموحاتهم ورغباتهم، بل طمعهم إلى ارض المحروسة، وكل يبغى تحقيق مبتغاه، وكان منهم من يبحث عن الكنوز، فانهالت السرقات على أثار مصر وفى كل بقعها، واستمر الحال بدون ضابط أو رابط.

وأصبحت ظاهرة البحث عن الأثار وتهريبها للخارج وانتشار الرحالة والمغامرين الأجانب في مصر بحثا عن الأثار منتشرة بشكل كبير في بداية القرن التاسع عشر، لدرجة أصبحت القطع الأثرية تُعامل كالهدايا يهديها الأمراء والملوك للوجهاء والدبلوماسيين الأجانب.

متحف كامل ذهب كهدية:

فمثلا في العام 1855م,‏ كان الأمير النمساوي‏,‏ الأرشيدوق ” فرديناند ماكسميليان “‏,‏ (ولى عهد النمسا) في زيارة إلى مصر‏,‏ حيث أخذه سعيد باشا (صديقه أيام الدراسة بأوروبا (,‏ إلى القلعة ليشاهد مجموعة القطع الأثرية بمتحف الأزبكية الذي نقل إلى القلعة. أراد باشا مصر أن يحتفل بالأرشيدوق فأعد له جوادا عربيا‏,‏ لجامه من الذهب الخالص وسرجه مذهب ومرصع بالأحجار الكريمة‏,‏ فطلب إليه الأرشيدوق أن يهديه بدلا من تلك الهدية شيئا من الأثار المصرية القديمة. فعرض سعيد باشا عليه أن يهديه المتحف بالكامل فأعجبه فأهداه له‏,‏ وخرج الأمير النمساوي بالهدية الثمينة من أرض مصر‏,‏ وهو لا يكاد يصدق نفسه‏!‏”

اخترنا لك: الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(14)… دور القناصل والمستشرقين في تجريف وتهريب الأثار المصرية

وفى العام 1860م عثر الأهالي في منطقة دراع أبو النجا بالأقصر على مقبرة الملكة “اياح حتب” زوجة الملك “سقنن رع” (من ملوك الأسرة السابعة عشرة ومكافح الهكسوس)، وعليها مجوهراتها وأبلغ النبأ إلى الوالي «سعيد باشا» و «مارييت باشا» مدير مصلحة الأثار وقتئذ، الذي أمر بحفظ الأثار. لكن مدير قنا نقلها إلى بيته، ولما جاء مفتش الأثار لم يجد إلا قليلاً من الحلى بينها سلسلة من الذهب يزيد طولها على متر أهداها الخديوي إلى إحدى نساءه؟

سطوة الأجانب في مجال الآثار المصرية:

واستمرت مصر تهدر، وكان مدير الأثار المصرية سواء أجنبي (فرنسي اغلب تلك الفترات) أو مصري (مع نهايات القرن العشرين)، ولم يكن لهما أي صلاحية أو سلطة تذكر أمام سطو بعثات الحفر الأجنبية المدعومة من باشوات مصر وحكامها. حتى إن المغامرين الأجانب كانوا يتعاملون مع المصريين باحتقار شديد وهم يكشفون أسرار المقابر أو يشترون منهم ما يسرقونه من الأثار. كانت مصلحة الأثار تتعامل مع المغامرين الوافدين للتنقيب، بطريقة القسمة، أي إعطائهم نصف ما يكتشفونه من أثار وظل هذا النظام سائداً طوال القرن التاسع عشر وحتى العام 1951م إلى أن ألغته الحكومة المصرية قبل الثورة.

الآثار المصرية للتسلية:

تهريب الاثار المصرية

ويحضرنا ما ذكرته الروائية الإنجليزية (أميليا ادواردز) في كتابها (رحلة الآلف ميل) والذي تصف فيه رحلتها في عموم مصر (1873م – 1874م). حيث راع الأنسة أميليا السرقات التي تتم على أيدي الأجانب ومساعديهم من أهالي البلاد. لكن كان استغرابها شديدا لما يقوم به حكام مصر من تفريط في أثار وكنوز مصر، فقد ذكرت حرفيا ” ويبدو أن الخديوي (إسماعيل) عندما كان يريد تسلية الضيوف المشهورين كان يرسلهم في دهبيات فخمة للرحلة عبر نهر النيل، وكان يمنحهم ربوة عذراء، أو عدة أقدام مربعة من مقبرة شهيرة ويسمح لهم بالحفر إلى العمق الذي يرغبونه؛ ويسمح لهم بالاحتفاظ بما يعثرون عليه من أثار”. وكان في بعض الأحيان يرسل فتيان الكشافة لحفر الأرض لاكتشاف مقبرة ثم يتركونها دون أن يفتحوها، ثم يسمح للزائر جليل القدر باكتشافها، وعندما كان فتيان الكشافة لا يوفقون كما كان يحدث أحيانا، فإنهم كانوا يعيدون إغلاق مقبرة قديمة بعناية ثم يعاد فتحها مرة أخرى بعد يوم أو اثنين بين مظاهر الفرح”. وقد حدث هذا سنة 1869م عندما وصلت إمبراطورة فرنسا (أوجيني دي مونيتو كوتيسه، زوجة الإمبراطور نابليون الثالث إلى أبو سمبل. وأيضا تكرر مرة أخرى سنة 1872م عندما جاءا أمير وأميرة ويلز.

المسلات وطائر أبو منجل ذهبا كهدايا:

لوحظ أن الكثير من الأثار المصرية خرجت كهدايا شخصية من ملوك مصر ورؤسائها في القرنين التاسع عشر والعشرين. كنا ذكرنا من قبل ما أهداه محمد على باشا وأحفاده الخديوي إسماعيل وتوفيق من مسلات عملاقة لأصدقائهم في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وبالنسبة للرئيس جمال عبد الناصر، فقد قيل إنه اتجه شرقا، في هذا الصدد، إلى الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية، وعلى نطاق ضيق، مقارنة بخلفه السادات الذي ارتكب الخطأ نفسه في حق أثار مصر، عندما أهدى قطعا أثرية عديدة لبعض الملوك والرؤساء، كان أشهرها تمثال الطائر أيبس (أبو منجل، Ibis)، حتى بلغ ما أهدي، من تماثيل هذا الطائر وحده، أكثر من مئة قطعة، منذ بداية الأربعينات، وحتى نهاية السبعينات من القرن الماضي.

وقد ذكر وزير الآثار الأسبق زاهي حواس أن “التهادي بالآثار خطأ، لكنه حدث منذ عهد أسرة محمد على، وفي ظل حكم الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات، فالأخير أهدى جيمي كارتر (رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق) قطعة أثرية موضوعة حاليًا في متحفه في أتلانتا (عاصمة ولاية جورجيا الأمريكية)، أما الرئيس الأسبق حسني مبارك، فلم يُهد قطع أثرية لأي شخص. والمشكلة أن القطع المُهداة ترفع من قوائم الأثار المملوكة للدولة؛ لذلك لا يمكن استعادتها مرة أخرى. وقد يتساءل البعض ألا توجد قوانين تنظم وتحمي التنقيب والتجارة للأثار المصرية، ذلك ما سيكون موضوع المقال التالي بإذن الله تعالى.

 

دكتور قاسم زكى؛

 أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،

عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى