الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية(14)… دور القناصل والمستشرقين في تجريف وتهريب الأثار المصرية

تعتبر الفترة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر الميلاديين من الفترات الحاسمة في تاريخ مصر، حيث شهدت البلاد تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، كما شهدت تزايدًا ملحوظًا في التفاعلات مع العالم الخارجي. كان للقناصل الأجانب دور محوري في هذه الفترة، حيث كانوا بمثابة الجسر الذي يربط بين مصر والدول الأجنبية، ويشهدون على التبادلات الثقافية والتجارية (وتهريب الآثار) التي كانت تتم في ذلك الوقت.
دور القناصل الأجانب في حماية مصالح بلادهم:
كانت مصر مركزًا تجاريًا مهمًا على طريق الحرير، مما جذب التجار الأجانب الذين احتاجوا إلى حماية مصالحهم. وكان على الدول الأجنبية إرسال قناصل إلى مصر لتمثيل مصالحها وحماية مواطنيها المقيمين هناك. كما زادت الرحلات الاستكشافية إلى مصر، مما دفع الدول الأجنبية إلى إرسال قناصل لتسهيل مهمات المستكشفين. ولعل الاهتمام الكبير بالدراسات الدينية، خاصة المسيحية، دفع الكنائس الأوربية والأمريكية إلى إرسال قناصل لحماية رعاياهم.
وكان دور القناصل الأجانب كبيرا في حماية مصالح التجار والمواطنين من بلادهم المقيمين في مصر، وتقديم المساعدة القانونية لهم. ولم يخلو دور بعض القناصل بجمع المعلومات الاستخباراتية لصالح بلادهم. وساهم القناصل في نشر الثقافة الأوروبية في مصر، ونقل الثقافة المصرية (والآثار) إلى بلادهم. وكانوا يتوسطون في حل النزاعات التي تنشأ بين مواطني بلادهم والمصريين.
ساهم القناصل الأجانب في نقل الأفكار الحديثة والتكنولوجيا خاصة في مجال العمارة والفنون مما ساهم في عملية التحديث. لكن للأسف في بعض الأحيان، كان القناصل يتدخلون في الشؤون الداخلية ويثيرون المشاكل. وكان للفرنسيين والبريطانيين والطليان حضور قوي في مصر وكانوا يسعون إلى حماية مصالحهم خاصة في مجال التجارة، وكانوا يرسلون قناصل لحمايتها.
دور القناصل الأجانب في تهريب الآثار المصرية:
أكثر حالات الكشوف والتهريب للآثار المصرية تمت في العصر الحديث؛ خاصة في الفترة الممتدة من بدايات القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي (~ 1500-1900م). حينها كان الدبلوماسيون المقيمون في مصر أكثر الجميع حماسا في جمع الآثار، فقد كانت أعبائهم الوظيفية في القاهرة والإسكندرية هينة، فكان جمع الآثار بالنسبة لهم هواية وعملا إضافيا ومربحا معا لأشخاصهم، حتى أنهم كانوا يبيعون ما يتحصلون عليه من كنوز مصرية لاي مشتر أجنبي لدية القدرة لدفع الثمن بغض النظر عن جنسيته. ولعل تقارير هؤلاء القناصل والمستشرقين بل والزوار كان لها الأثر الكبير الذي استرشدت به حملة نابليون بونابرت على مصر (1798-1801م). وفي تلك الفترة نشطت في أوروبا عمليات تطوير المتاحف القومية والبحث عن أي مقتنيات سواء قومية أو أجنبية.
وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ازدادت عملية نهب الآثار المصرية على أيدي السياسيين والدبلوماسيين الأجانب ورجال الدين، حتى أن الأب “فانسلب” والذي كان وكيلا لـ”لويس الرابع عشر” ملك فرنسا؛ قد زار مصر مرتين (1663م، و1672م). ولقد رصد أحوال مسيحيّ مصر خلال فترة الحكم العثماني المملوكي. ولكن بدأ يذهب إلى العديد من الأماكن التي يستطيع الحصول منها على مخطوطات ووثائق أثرية، بل هبط في بعض القبور الأثرية في سقارة وحصل منها على بعض جثث الطيور المحنطة في الأواني الفخارية وأرسلها مباشرة إلى باريس.
أشهر الأجانب الذين هربوا الآثار:
ومن الدبلوماسيين الأجانب البريطاني “لي مير” الذي عمل في مصر (1711م -1722م)، وهو أحد أبرز القناصل الأجانب الذين حملوا معهم عند عودتهم إلى أوروبا ما خف حمله وغلا ثمنه من الآثار المصرية.
وفى العام 1723م عرض “توماس سيرجنت” أحد هواة جمع الآثار على جمعية الآثار في لندن صندوقا به تماثيل لمجموعة من المعبودات المصرية القديمة كان قد جاء من مصر مؤخراً.
أما “ريتشارد بوكوك”؛ 1704- 1765 م، وهو قسيس وعالم بريطاني)، قام بزيارة الشرق في رحلته الشهيرة من 1737 – 1741م، قام خلالها بزيارة مصر وفلسطين ولبنان، والشام وآسيا الصغرى واليونان. وكتب مشاهداته في كتابه “وصف الشرق” في مجلدين، كان كتابه هذا بمثابة الزناد الذي قدح فكر مفكري بريطانيا وساستها وعلمائها للاهتمام بمصر وأثارها وتاريخها منذ ذلك الحين. ولكنه حين عودته لإنجلترا اخذ معه قطع أثار مصرية منها تمثال المعبودة إيزيس وعدة قطع أخرى يونانية ورومانية.
كما ضمت مجموعة الآثار المصرية الخاصة بالطبيب الإنجليزي “السير هانز سلون (Sir Hans Sloane؛ 1660-1753م)” – أحد مؤسسي المتحف البريطاني عام 1756م – لفائف من أوراق البردي النادرة، وكان متحف لندن يشتري الآثار المصرية بطريقة طبيعية بعد إنشائه مباشرة.
وخلال ثمانيات القرن الثامن عشر الميلادي أظهرت “ماري أنطوانيت” (1755م-1793م) ملكة فرنسا وزوجة الملك لويس السادس عشر ووالدة الملك لويس السابع عشر، أظهرت شغفا زائداً بمصر وأثارها حين أمرت بإحضار عدد من القطع الأثرية المصرية إلى القصور الملكية. كما ضم متحف “جرينوبل” الفرنسي، مسقط رأس شامبليون، عشر قطع من الآثار المصرية أهمها تابوتان يحتوي أحدهما على المومياء الخاصة بشامبليون والتي سبق أن أهداها له القنصل الفرنسي “الفرس مور” عام 1799م.
ومع ازدياد المعرفة بأهمية مصر وموقعها الجغرافي والضعف الذي دب في الدولة العثمانية “رجل أوروبا المريض” المسيطرة على مصر، حضر نابليون في حملته المشهورة لاحتلال مصر في يوليو 1798م، واصطحب معه بعثة علمية تضم 167 عالما من مختلف التخصصات لمعاونته، ورغم فشل الحملة العسكرية، نجحت البعثة العلمية نجاحا مذهلا وأنجزت في ثلاث سنوات ما يحتاج إنجازه لعشرات من السنين.
ولعلنا نذكر أيضا بعض أسماء من جاءوا لمصر في زي مستشرقين أو دبلوماسيين أو سياح أو مغامرين ونقلوا العديد من أثار مصر للخارج سواء بالسرقة أو بعلم حكام مصر. ولعل أول هؤلاء هو قنصل فرنسا العام عقب حملة نابليون “دروفيتي” وقنصل بريطانيا العظمي الكولونيل “ميسيت” ثم السير “هنري سولت” والأسقف البريطاني «ريتشارد بوكوك» .
وتزخر سجلات التاريخ بأسماء كثيرة أخرى من القناصل ممن ساهموا في تهريب الآثار المصرية نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر القنصل الفرنسي “جان- جوزيف دوبوا”، والقنصل الفرنسي العام في الإسكندرية “جان- فرانسوا ميمو” والقنصل السويدي الأرمني الأصل “جيوفاني أنستازي”، ونائب القنصل الروسي “سليمان”، والقنصل الفرنسي “دلابورت”. و “ألفونس ريافيه”، و”روسي بك”.
وقد ساهم هؤلاء الضيوف الفضوليين في تخريب الأثار المصرية، وبإذن الله لاحقا في تلك السلسلة سوف نتناول بالتفصيل هؤلاء اللصوص واحد تلو الأخر، خاصة ممن تسبب في تهريب آلاف قطع الآثار المصرية للخارج.
لكن هناك من هم أفاضل:
بينما يذكر التاريخ بكل ثناء على ملك الدانمارك و النرويج المستنير “كرستيان الخامس” (Christian V؛ 15 أبريل 1646 – 25 أغسطس 1699م) واهتمامه بتسجيل الآثار المصرية، فقد أوفد بعثة علمية بقيادة المهندس البحري والفنان “فردريك لويس نوردون “(Frederic Louis Norden ؛ 1708-1742م) والتي زارت مصر و بلاد النوبة ووصفت كافة المشاهدات في كتاب (سياحة) عام 1755م. وتعد هذه أول محاولة جادة ودقيقة لوصف أثار مصر وعرضها بدقة للأوربيين.
دكتور قاسم زكى؛
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر