الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (33): كنوز مصر في قلب إيطاليا: أسرار المتحف الفرعوني بتورينو

في هذه الحلقة من سلسة المقالات التي تتحدث عن تهريب الآثار المصرية نتناول الكنوز المصرية في قلب إيطاليا “المتحف المصري في تورينو” (Museo Egizio) ، والذي يعتبر أقدم متحف في العالم مخصص بالكامل للحضارة المصرية القديمة. وهو متحف متخصص في عرض الآثار المصرية القديمة ومساحته 5500 متر مربع، وافتتح عام 1824م؛ ويحتوي على أكبر مجموعة من التحف المصرية التي يبلغ عددها 37 ألف قطعة تحكى قصة الأثار المصرية من العصر الحجري إلى العصر القبطي في مصر، ولهذا فهو يعد قبلة السائحين الذين يعشقون الأثار المصرية. ويبلغ عدد الزوار سنويا 898500 (ثمانمائة وثمانية وتسعون ألفًا وخمسمائة) زائر (عام 2022م)، ويفتح المتحف أبوابه كل أيام الأسبوع.
آثار مصر ومدينة تورينو وعلاقات تاريخية:
ترجع علاقة مدينة تورينو الإيطالية بالآثار المصرية إلى منتصف القرن السابع عشر عندما اشترى ملك دوقية «سافوي» “كارل إيمانويل الأول” عام 1630م مائدة للقرابين (مذبح) رومانية الصنع مصرية الأسلوب، كانت مخصصة لمعبد إيزيس في روما واسمها بالإيطالية ( Mensa Isiaca) وكانت من البرونز المزخرف برسومات فرعونية جميلة. وفى عام 1724م جمع الملك «فيتوريو أماديو الثاني ( Vittorio Amedeo II، 1666م- 1732م) مجموعة من الآثار وضعها في مبنى ضخم كان في الأصل مدرسة يسوعية، والذي صار ضمن مباني الجامعة بمدينة تورينو ثم فيما بعد مبنى المتحف المصري بتورينو.
لوحة إيزيس أو مائدة القرابين (Mensa Isiaca)، تلك هي التي حفَّزت الملك «كارلو إيمانول الثالث” (ملك سردينيا 1730-1773م) على تكليف عالم النبات والطبيب والأثري الإيطالي “فيتاليانو دوناتي” (Vitaliano Donati ، 1717م-1762م) أن يسافر إلى مصر ليجمع منها ما يستطيع من الآثار المصرية التي تماثل جمال هذه اللوحة وذلك عام 1759م. وقضى “دوناتى” في مصر من منتصف 1759م إلى أوائل 1762م، أي نحو سنتين ونصف إلى ثلاث سنوات تقريبًا. محاولاً جمع ما يستطيع من آثار عن طريق الحفائر أو الشراء، ثم عاد إلى إيطاليا ومعه 300 أثر مصري أُضيفت إلى المجموعة التي جمعها الملك «فيتوريو أماديو الثانى» من قبل (1724م) ليصيرا النواة الأولى للمتحف المصري بتورينو والتي أضيف إليها الكثير خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
في عام 1824م اشترى الملك “تشارلز فيلكس” ملك سردينيا مجموعة “دروفيتي” الأولى المتكونة من 5268 قطعة منها 100 تمثال و170 بردية بالإضافة إلى مومياوات وقطع أخرى متنوعة بمبلغ 400 ألف ليرة إيطالية وقدمها هدية لمتحف تورينو. مجموعة “دروفيتي” الأولى هذه كان قد جمعها الجنرال “برناردينو دروفيتي” (1776-1852م؛ وهو رحالة وعسكري ودبلوماسي إيطالي ومستكشف وأثري كان مرافقا لنابليون في حملته على مصر، ثم قنصلا فرنسيا في مصر لفترة طويلة، حيث قام بتجميع وشراء القطع الفرعونية النادرة).
وتم افتتاح المتحف المصري رسميا في تورينو عام 1824م، الذي ذهب مديره فيما بعد الى مصر أثناء حكم العثمانيين لها للتنقيب عن مزيد من الآثار الفرعونية. وفي نفس عام الافتتاح 1824م استخدم العالم “جان فرانسوا شامبليون” مجموعة تورينو من البرديات لاختبار كشفه وترجمته للرموز الهيروغليفية لأول مرة. ويعتقد أن الفترة التي قضاها شامبليون في تورينو مرتبطة باختفاء “بردية تورينو” التي وجدت لاحقاً مع اختفاء أجزاء منها.
شيباريلى وتعبئة متحف تورينو:
وفي عام 1833م أضيفت مجموعة أثار مصرية أخرى مكونة من 1200 قطعة للمتحف. المجموعات المصرية بهذا المتحف تم استكمالها باستكشافات عالم المصريات الإيطالي “إرنستو شيباريلى” (Ernesto Schiaparelli ، 1856م-1928م) ومدير المتحف المصري في تورينو خلال رحلاته الاستكشافية بين 1900م و1920م؛ ففي خلال فترة عمله مديراً للمتحف، قام شيباريلى بتوسيع المجموعة الأثرية للمتحف بشكل كبير، وذلك من خلال الحفريات التي قام بها في مصر ونقل الآثار التي اكتشفها إلى تورينو. وأسس شيباريلى مدرسة إيطالية في علم المصريات، وقدمت هذه المدرسة العديد من العلماء والباحثين الذين ساهموا في تطوير هذا العلم. ومن المعلوم أن شيباريلي تولى إدارة المتحف المصري في تورينو في عام 1894م، استمر في العمل في مصر حتى وفاته في عام 1927م.
وحكومة مصر تقدم هدايا؟
وتعد مقصورة الليسية “معبد إليسيا” (Ellesiya) من أواخر القطع التي أضيفت للمتحف بإهداء من الحكومة المصرية عام 1966م مقابل تعاون الحكومة الإيطالية في إنقاذ آثار النوبة من الغرق. معبد إليسيا هو معبد صخري مصري قديم، يعتبر تحفة معمارية فريدة من نوعها. تم بناؤه في عهد الأسرة الثامنة عشر، بأمر من الملك تحتمس الثالث، وذلك في منطقة النوبة، بالقرب من موقع قصر إبريم. كان المعبد مخصصًا لعبادة الآلهة آمون وحورس وساتيس.
أهم القطع المميزة بالمتحف:
من أهم القطع المميزة بالمتحف هي مجموعة تماثيل ملوك الدولة الحديثة (منهم تمثال رمسيس الثاني والذي يطلق عليه “تحفة تورينو الساطعة”) – ومعبد تحتمس الثالث “معبد إليسيا” – وأكفان ومومياوات مجموعة دروفيتي – ورسم على نسيج يرجع تاريخه إلى 3500 قبل الميلاد – ومشهد جنائزي من مقبرة مجهولة المالك – ومقبرتا “خا وميريت” اللتان أكتشفهما شيباريلي – ولوح إيزيس – ومقبرة مرسومة – ومجموعة برديات دروفيتي وشامبليون -وبردية تورينو (بردية تورينو أو “تورين” وهي خريطة مصرية قديمة، تُعتبر عمومًا أقدم خريطة جيولوجية باقية ذات أهمية طبوغرافية من العالم القديم؛ تم رسمها على ورق بردي يقال أنه تم اكتشافها في دير المدينة في طيبة، جمعها “برناردينو دروفيتي” في مصر في وقت ما قبل عام 1824م) – وبردية تورينو الجنسية. والمتحف أيضاً يمتلك ثلاث نسخ من كتاب الموتى منهم أقدم نسخة معروفة. بالإضافة إلى رسوم المعماري الملكي “خا” التي أكتشفها شيباريلى.
خلال كل هذه الأعوام بقت المجموعات المصرية في المتحف المخصص لها في تورينو إلا بعض القطع التي نقلت خلال الحرب العالمية الثانية. تم تجريب نموذج خصخصة المتاحف الإيطالية في المتحف المصري بتورينو عندما أنشئت مؤسسة متاحف الأثار المصرية عام 2004م لهذا الغرض. المبنى نفسه تم تعديله احتفالاً بالأولمبياد الشتوية عام 2006م. وأعيد تجديده وتم افتتاحه في الأول من أبريل عام 2015م. وهذا المتحف يعتبر أكبر ثاني متحف به أثار للمصريين القدماء في العالم.