الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (38): متحف الشرق القديم ….. وآثار مصر في قلب إسطنبول

في قلب مدينة إسطنبول، وعلى بُعد خطوات من ساحة السلطان أحمد وقصر توبكابي، يقع متحف الشرق القديم (The Museum of the Ancient Orient)، أحد أضلاع مجمع متاحف إسطنبول الأثرية الثلاثة، إلى جانب متحف الآثار ومتحف الفن الإسلامي. ويُعرف بالتركية باسم “متحف الفنون القديمة”، ويعد من أقدم وأهم المتاحف في تركيا، وهو ما سوف نتناولة في المقال 38 من سلسلة مقالات عن تهريب الآثار المصرية.
الإمبراطورية العثمانية وجمع التحف:
يضم هذا المتحف العريق ما يقرب من مليون قطعة أثرية، تم جمعها على مدى قرون من أراضي الإمبراطورية العثمانية والجمهورية التركية، ويمثل نافذة فريدة على حضارات الشرق الأدنى القديم، من بلاد ما بين النهرين والأناضول وفارس وشبه الجزيرة العربية، وصولًا إلى مصر الفرعونية.
يعود الاهتمام بجمع القطع الأثرية في الدولة العثمانية إلى عهد السلطان محمد الفاتح (1432م – 1481م) غير أن التأسيس الرسمي للمتحف كمؤسسة علمية بدأ عام 1869م تحت اسم “متحف همايون” (المتحف الإمبراطوري). ومع تزايد حجم المقتنيات، تم تحويل “الجناح المبلط”، الذي بُني في عهد الفاتح، إلى متحف عام 1880م، ثم جاء التحول الأهم عام 1881م حين تم تعيين عثمان حمدي بك مديرًا عامًا للمتاحف.
ويُعد عثمان حمدي بك رائد علم المتاحف في تركيا، إذ أجرى حفريات أثرية في جبل نمرود، ولاجينا، وصيدا، واكتشف خلال بعثته الشهيرة إلى لبنان (1887م–1888م) مقبرة ملك صيدا، ومنها أتى بـ”تابوت الإسكندر” الشهير وتوابيت أخرى إلى إسطنبول، ما شكّل نواة متحف الآثار الكلاسيكي.
أما متحف الشرق القديم، فقد شُيّد عام 1883م ليكون مقرًا لأكاديمية الفنون الجميلة، ثم خُصص عام 1917م لعرض القطع الأثرية التي توثق حضارات الشرق. المبنى صممه المعماري الفرنسي “ألكسندر فالوري”، الذي صمم أيضًا الواجهة الكلاسيكية لمتحف الآثار المجاور. يبرز على واجهته نقش عثماني يحمل اسم “متحف الآثار القديمة”، إلى جانب طغراء (التوقيع السلطاني المميز) للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني.
يحتضن المتحف مجموعة مذهلة من الآثار التي تعود إلى حضارات سومر، بابل، آشور، الحيثيين، الأناضول، والعرب ما قبل الإسلام. كما يضم آلاف الألواح المسمارية، وتماثيل، وأدوات فخارية واحتفالية، ونصوص قانونية ودينية، تعرض التطور الحضاري والديني والسياسي لتلك الشعوب.
الآثار المصرية ومعاهدة قادش:
أما الآثار المصرية، فلها حضور بارز ومؤثر في المتحف، إذ تبدأ الجولة داخله بقاعة مصرية مخصصة، هي الأولى التي يقابلها الزائر، وتضم قطعًا فريدة مثل:
- تابوتان ومومياوتان في حالة جيدة،
- أوانٍ كانوبية وتماثيل أوشابتي،
- نقوش ولوحات أثرية فرعونية.
وإلى جانب هذه المقتنيات، يعرض المتحف إحدى أعظم الوثائق التاريخية في العالم، وهي النسخة الأصلية من معاهدة قادش، التي تعود لعام 1274 ق.م، والتي أبرمها الملك رمسيس الثاني مع ملك الحيثيين “مواتللي الثاني”. هذه الوثيقة، التي اكتُشفت في العاصمة الحيثية “حاتوسا”، تُعد أقدم معاهدة سلام مكتوبة عرفها التاريخ، وهي محفوظة على لوح طيني يعكس نضج الفكر الدبلوماسي في مصر القديمة.
الباب العالي والاستيلاء على آثار الشعوب:
ومن بين المعروضات اللافتة أيضًا، تمثال ضخم للملك الآشوري شلمنصر الثالث (858–824 ق.م)، بنقوش تروي بطولاته وألقابه، إلى جانب ألواح بابلية نادرة تسرد سجلات إدارية وأدبية من عصور موغلة في القدم.
ولا يخفى أن كثيرًا من القطع الأثرية، ومنها المصرية، دخلت إلى المتحف خلال الحقبة العثمانية، حين كانت معظم بلاد الشرق العربي، ومن ضمنها مصر، تحت حكم الباب العالي. وتم نقل عدد كبير من الآثار من مصر وبلاد الشام وبلاد الرافدين إلى إسطنبول، سواء عبر الحفريات الرسمية أو عبر الهدايا والبعثات، وبعضها بطرق لم توثق رسميًا، ما يثير أسئلة حول مشروعية حيازتها اليوم.
ويُفتح متحف الشرق القديم أبوابه للزوار يوميًا، ما عدا يوم الاثنين، من الساعة التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءً، ويعد من أهم المزارات الثقافية في إسطنبول لعشاق التاريخ والآثار.
د. قاسم زكي
أستاذ الوراثة – كلية الزراعة – جامعة المنيا
عضو اتحاد الأثريين المصريين – عضو اتحاد كتاب مصر


