
بدأنا من الحلقة السابقة من سلسلة مقالات عن تهريب الآثار المصرية (حلقة 20) في استعراض أهم القطع الأثرية المصرية التي هُربت للخارج. وكان أول المذكورين حجر رشيد فهو أشهر النصوص الحجرية في العالم، وكان الاكتشاف الأكبر في طريق التعرف على الحضارة المصرية القديمة وأسرارها. والأن جاء دور فاتنة الدنيا وحسناء الزمان، انه تمثال الملكة نفرتيتي.
خلفية تاريخية عن الملكة نفرتيتي:
نفرتيتي ” Nefertiti عاشت في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، زوجةً للفرعون المصري العظيم أخناتون (أمنحوتب الرابع) صاحب ثورة التوحيد الدينية، والذي ارتقى عرش مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وغادر أخناتون طيبة وأنشأ عاصمة جديدة لملكه “مدينة أخيتاتون” في الشمال في “تل العمارنة بالمنيا”. وتعد نفرتيتي من أقوى النساء في مصر القديمة، عاشت فترة قصيرة بعد وفاة زوجها، وكان لها منزلة رفيعة أثناء حكمه، وقد كلف أخناتون خيرة فنانيه لصنع تماثيل أية في الرقة والجمال لزوجته الحبيبة، أحدها هو هذا التمثال. اختفت نفرتيتي من التاريخ في السنة الثانية عشرة من حكم أخناتون.
تمثال نفرتيتي:
تمثال نفرتيتي أحد أشهر الأعمال الأثرية المصرية القديمة، وهو تمثال نصفي ملون عمره أكثر من 3300 عام، أبدعه النحات المصري “تحتمس“لزوجة الفرعون المصري” أخناتون”، عام 1345ق.م. تقريبًا. يبلغ طوله 47 سم، ويزن حوالي 20 كيلوجرام، صنع من الحجر الجيري الملوّن بطبقة من الجص، جانبا الوجه متماثلان تمامًا، وهو في حالة سليمة تقريبًا، ولكن العين اليسرى تفتقر إلى البطانة الموجودة في اليمنى. بؤبؤ العين اليمنى من الكوارتز المطلي باللون الأسود والمثبت بشمع العسل، بينما خلفية العين من الحجر الجيري. ترتدي نفرتيتي تاجًا أزرق مميز مع إكليل ذهبي، وعلى جبينها ثعبان كوبرا (وهو مكسور الآن)، بالإضافة إلى قلادة عريضة منقوشة بالزهور، والأذنان أيضًا عانت من بعض الأضرار.
جعل هذا التمثال من نفرتيتي أحد أشهر نساء العالم القديم، ورمز من رموز الجمال الأنثوي في مختلف العصور. فالتمثال يعرض امرأة ذات عنق طويل وحواجب أنيقة مقوسة وعظام بارزة وأنف نحيل وابتسامة غامضة وشفاه حمراء، مما جعل منها واحدة من أجمل وجوه العصور القديمة. وأصبح التمثال واحد من أكثر القطع الفنية أثارة للإعجاب، ولا يماثله شهرة سوى قناع توت عنخ آمون. وقد تبنت العديد من المجتمعات في جميع أنحاء العالم الملكة نفرتيتي باعتبارها رمزا للجمال الحقيقي، وبعض المؤرخين قد أعلنوا أنها أجمل امرأة في العالم.
في عام 1930م، وصفت الصحافة الألمانية تمثال نفرتيتي بأنه تمثال ملكتهم الجديدة. وكان “هتلر” سببا في ذيوع شهرة تمثال نفرتيتي حين صمم على وضع تمثال مقلد له في حجرته، كما جعلته ألمانيا رمزا ثقافيا لمدينة برلين؛ وتعهد “هتلر” ببناء متحف ليحتويه. وفي السبعينات، أصبح التمثال رمزًا للهوية الوطنية الألمانية؛ وخصصت لها قاعة يعرض فيها لوحده. كما اعتبر التمثال أفضل عمل فني من مصر القديمة، ويعد بين أشهر 10 قطع أثرية مسلوبة في العالم.
اكتشاف تمثال نفرتيتي:
عثر عليه فريق تنقيب ألماني في يوم 6 ديسمبر1912م، في تل العمارنة (بمركز دير مواس، محافظة المنيا، جنوب القاهرة بحوالي 300 كم)؛ بقيادة عالم المصريات” لودفيج بورشارت”، بناء على تصريح رسمي من الحكومة المصرية، وبتمويل من “الجمعية الألمانية للشرقيات”، وكان أمين صندوق الجمعية “هنري جيمس سيمون”. يتم بمقتضى الاتفاق بين الحكومة المصرية وفريق التنقيب تقسيم القطع الأثرية المكتشفة، وفقا لقانون الأثار الساري في ذلك الوقت. وقام “بورشارت” بإهداء جميع القطع التي آلت إليهم إلى متحف برلين عام 1920م.
كواليس اكتشاف التمثال:
نظرا لتميز وجمال التمثال، كان بورشارت عاقدًا العزم على أن يكون التمثال للألمان. ويشتبه في أنه قد أخفى قيمة التمثال النصفي الحقيقية. فقد عرض بورشارت على المسؤول المصري صورة ذات إضاءة سيئة للتمثال، كما أخفي التمثال في صندوق عند زيارة مفتش عام الأثار المصرية الفرنسي “جوستاف لوفيفري” للتفتيش. وكشفت وثيقة عرضها المتحف الألماني عام 2009م أن بورشارت، ادعى أن التمثال مصنوع من الجبس، لتضليل المفتش. وقد ألقت الشركة الشرقية الألمانية باللوم على إهمال المفتش، وأشارت إلى أن التمثال كان على رأس قائمة التقسيم، وأن الاتفاق كان نزيهًا. وصل التمثال إلى ألمانيا في عام 1913م، وبقي التمثال عند سيمون (ممول البعثة). وفى عام 1913م بدأ النشر العلمي لجميع المكتشفات الأثرية (حسب القانون المصري) عدا رأس نفرتيتي، إذ امتنع بورشارت عن نشر أي معلومات بشأنه، كما امتنع عن عرض التمثال بمتحف برلين لمدة احد عشر سنة تالية (حتى عام 1924م)، وهو الأمر المخالف لنص الاتفاقية بين الحكومة المصرية والبعثة، حيث يشترط أن يتم النشر العلمي فور العثور على الأثر.
اخترنا لك : اقرأ في العدد الجديد من نشرة غذائي (88) ..إعلان برنامج رد الأعباء التصديرية الجديد خلال أيام
وهب “سيمون” التمثال لمتحف برلين نهائيًا في عام 1920م. وأخيرًا في العام 1923م، تم اتفاق الألمان على عرض التمثال للجمهور بعد موافقة كتابية من بورشارت. وفي عام 1924م، عرض بالفعل على الجمهور كجزء من المتحف المصري ببرلين. ومع بداية الحرب العالمية الثانية (1939م) أفرغت متاحف برلين، ونقلت الأثار إلى ملاجئ آمنة للحفاظ عليها. وعاد التمثال لمتحف برلين الجديد، عند إعادة افتتاحه في أكتوبر 2009م.
المطالبات المصرية باستعادة التمثال:
وقد أثارت قضية ذلك التمثال (ومازالت) جدلاً عنيفًا بين مصر وألمانيا بسبب مطالبة مصر المتكررة بإعادته إليها منذ إزاحة الستار رسميًا عنه في برلين عام 1924م وحتى الأن؛ لكن دون استجابة من ألمانيا. بل أوضحت ألمانيا أن التمثال بمثابة سفير مصر في ألمانيا، ولا توجد نية لإعادته لمصر. كما أكد وزير الثقافة الألماني أنه لا توجد شكوك حول الملكية الألمانية القانونية للتمثال.
تذكر مصر أنه كان هناك خداع من بورشارت للسلطات المصرية عند تقسيم الآثار المكتشفة، فطبقا للوثائق المحفوظة لدي المتحف حول العثور على التمثال، وصف بورشارت الرأس بانها قطعة من الجبس لأميرة من العائلة الملكية؟، لذا ذهب التمثال إلى جانب البعثة الألمانية. ولكن في مذكراته الشخصية، أشار لودفيج بورشارت، بوضوح إلى أن التمثال هو لرأس الملكة نفرتيتي ومصنوع من الحجر الجيري، وهو ما يثبت أن بورشارت كتب هذا الوصف المغلوط حتى تتمكن بلاده من الحصول على التمثال، بينما يجب أن تكون من نصيب مصر، لأن قانون القسمة كان لا يسمح بخروج القطع الأثرية النادرة والخاصة بالملوك والملكات.
دكتور قاسم زكى؛
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر