الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (32): متحف برلين الجديد: عبق التاريخ وروعة الحداثة

يُعد متحف برلين الجديد (Neues Museum) أحد أبرز المعالم الثقافية في العاصمة الألمانية برلين، وأحد أهم المتاحف في العالم التي تعرض تطور الحضارات الإنسانية، ويضم بين جدرانه كنوزًا من آثار الحضارة المصرية القديمة وغيرها من الحضارات التي أسهمت في تشكيل التاريخ البشري.
تناولنا في المقال السابق (31) ضمن سلسلة مقالات عن تهريب الآثار المصرية آثار مصر في متحف لوفر أبو ظبي، وننتقل في هذا المقال للحديث عن متحف آخر يضم مجموعة من الآثار المصرية وهو متحف برلين الجديد.
يقع المتحف على جزيرة المتاحف الشهيرة (Museumsinsel) خلف المتحف القديم (Altes Museum)، ويُعد قسم “المتحف المصري ومجموعة البرديات” (Ägyptisches Museum und Papyrussammlung) من أهم أقسامه. وقد أُسس المتحف بين عامي 1843م و1855م، وافتُتح رسميًا عام 1859م، بتصميم من المعماري البروسي الشهير “فردريش أوجوست ستولر”، تلميذ المعماري “كارل فردريش شينكل”.
من الملكية إلى العالمية:
بدأت نواة المتحف بمجموعة من مقتنيات الملوك البروسيين في القرن الثامن عشر، ضمن ما يُعرف بـ”مجموعة الفن الملكي البروسي”. ومع مرور الوقت، توسعت مقتنيات المتحف عبر الهدايا والاكتشافات الأثرية، وكان لعالم الجغرافيا الشهير “ألكسندر فون هومبولت” (Alexander von Humboldt، 1769م- 1859م) دور بارز في اقتراح إنشاء قسم خاص بالحضارة المصرية.
وقد اعتمد في تجميع محتويات المتحف على الشراء والتنقيب، وفي عام 1828م، وصلت أولى القطع الأثرية المصرية إلى برلين في عهد الملك فريدريش فيلهلم الثالث Friedrich III)، 1831م – 1888م). وفي عام 1936م، تم شراء مجموعة ضخمة من القطع الأثرية المصرية من “برناردينو دروفيتي”، القنصل الفرنسي في مصر، مقابل 30 ألف ليرة، وهو ما أضاف للمتحف ثراءً نوعيًا فريدًا.
كاد المتحف أن يُدمّر بالكامل أثناء الحرب العالمية الثانية نتيجة القصف الشديد الذي طال برلين، ولم يبقَ من المبنى سوى جدرانه الخارجية. وبعد عقود من الإهمال، بدأ مشروع ترميم شامل في عام 2003م، تحت إشراف المعماري البريطاني “ديفيد شبيرفيلد”، واستمر العمل حتى عام 2009م، حيث أُعيد افتتاح المتحف رسميًا بعد إغلاق دام أكثر من سبعة عقود.
بلغت تكلفة الترميم نحو 295 مليون يورو، وجاء التصميم مزيجًا مميزًا يجمع بين الحفاظ على الطراز الكلاسيكي للمبنى واستخدام عناصر معمارية معاصرة لضمان المتانة والجمال في آنٍ واحد. وقد حاز المتحف على جائزة الاتحاد الأوروبي للهندسة المعمارية المعاصرة عام 2011م.
مقتنيات فريدة على ثلاثة طوابق:
يتألف المتحف من ثلاث مجموعات رئيسية:
- المتحف المصري ومجموعة البرديات.
- متحف ما قبل التاريخ والتاريخ المبكر.
- مجموعة الآثار الكلاسيكية.
ويضم مبنى المتحف ثلاثة طوابق: في الطابق الأول، تبرز القطع المصرية القديمة، وعلى رأسها التمثال النصفي الشهير للملكة نفرتيتي، الذي يزيد عمره على 3300 عام. وتعرض إلى جانبه مومياوات وتوابيت وتماثيل ونقوش هيروغليفية، فضلًا عن مجموعة برديات تمتد لأربعة آلاف عام.
أما الطابق الثاني، فيضم آثارًا من بلاد ما بين النهرين واليونان، من بينها قطع من طروادة وقبرص، وكنوز من مجموعة “هاينريش شليمان”. ويحتوي الطابق الثالث على معروضات من العصور الحجرية والبرونزية والوسطى، مثل “قبعة برلين الذهبية” وجمجمة إنسان النياندرتال.
أكثر من نفرتيتي:
رغم أن تمثال نفرتيتي يُعد من أبرز معروضات المتحف، فإن مقتنياته الأخرى لا تقل أهمية، ومن أبرزها “الرأس الأخضر” من العصر المتأخر، وأوانٍ فضية من كنز “بريام” المنسوب إلى طروادة، إضافة إلى رأس فأس حجري عمره 700 ألف عام.
تجربة ثقافية متكاملة:
يتميّز المتحف بموقعه المركزي وسهولة الوصول إليه عبر المواصلات العامة. ويمكن للزائر باستخدام بطاقة Museum Pass Berlin دخول أكثر من 50 متحفًا في المدينة مجانًا، في حين يُمنح الأطفال والشباب حتى سن 18 عامًا دخولًا مجانيًا. يفتح المتحف أبوابه من الثلاثاء إلى الأحد من العاشرة صباحًا حتى السادسة مساءً، ويُغلق يوم الاثنين.
ومن الطريف أن المتحف يضم مقهى يقدم أطباقًا مستوحاة من المطبخ المصري، مثل السلطات واللفائف الشرقية، إلى جانب القهوة والحلويات، ما يمنح الزائر تجربة حسية شاملة تربط بين الحضارة والطعام.
في الختام، يُعد متحف برلين الجديد شاهدًا حضاريًا على التفاعل بين التاريخ والمعمار، بين التراث والحداثة. وهو يختزن في جنباته شواهد على الحضارة المصرية القديمة، ما يجعله وجهة ضرورية لكل من يسعى لفهم عمق الإنسان وتاريخه المشترك.