الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (6)… حتى المسلات العملاقة هُربت للخارج

ذكرنا في الحلقة الخامسة (باسر وباورو حكام طيبة وسرقة المقابر الملكية) أن نهب الآثار المصرية بدأ على يد بعض ضعاف النفوس من الفراعنة أنفسهم. والأن تتري أمام أعيننا الأحداث التي سجلها التاريخ لتهريب الأثار المصرية على يد غزاة مصر. حين مالت شمس مصر الفرعونية إلى الغروب، بدأت جحافل الغزاة تدك أبواب المحروسة بأقدامهم الثقيلة لتطأ أرضها وتستولى عليها.
كانت البداية مع الاحتلال الفارسي حين استولوا على مصر سنة 525 ق.م، فعاثوا في أراضيها الطاهرة فسادا وتخريبا ونهبا، وناوشهم ونافسهم الإغريق حتى احتلوا هم مصر عام 332 ق.م. وليمكثوا فيها ثلاث قرون كاملة، ليطردهم الرومان ويستولوا هم على مصر، ويزداد النهب والسطو الروماني طيلة ستة قرون كاملة.
تراث مصر القديم
ولعلك لا تحتاج أن تجهد نفسك كثيرا لتبحث عما نهبه الأجانب من تراث مصر القديم، وخزنوه في متاحفهم، أو تضطر أن تزور تلك المتاحف الممتلئة والمكدسة بتراث مصر المحروسة بل وبكل ما هو ليس بملكهم. وبما وضعوه خلف جدران مسلحة بمتاحف مغلقة ومؤمنة بحراسات غاية في الدقة والشدة. بل يكفيك أن تزور اهم ميادينهم وساحاتهم التي يفتخرون بها. فهناك تستطيع أن تشاهد عظمة مصر دونما تكلف نفسك دفع ثمن تذكرة دخول متحف، فقط انظر إلى مسلات الفراعنة العظام هناك في الهواء الطلق، والتي تعبر عن خلود الحضارة في أسمى معانيها، إذ تتفرد الحضارة الفرعونية بأنها الحضارة الوحيدة التي بها فن وإتقان إنشاء المسلات الفخمة المميزة.
والمسلة هي برج أو عامود حجري نحيف ذو أربع جوانب وينتهي رأسه بشكل هرم صغير؛ وهي عبارة عن نُصُب تذكاريّ طويل اشتهرت به الحضارة المصرية الفرعونية القديمة فمسلاتها منحوتة من حجر واحد فقط، وكانت تنقش نحتا على أضلاعه الأربعة كتابات هيروغليفية ورسومات ملكية ودينية. وصناعة المسلة كانت في حد ذاتها عمل شاق ومرهق، ولكن المصري القديم برع في فن نحت المسلات ونقشها رغم قسوة حجر الجرانيت الأسواني التي كانت تصنع منه المسلات. وأعتاد ملوك الفراعنة إقامتها بمناسبة الاحتفال بمرور عدد معين من سنوات حكمهم أو مناسبات انتصارهم. وكانت العادة أن توضع كل مسلتين معاً أمام مداخل المعابد، ويكسى رأس المسلة الهرمي بصفائح رقيقة من الذهب أو الفضة أو النحاس أو معادن أخرى لتبدو من بعيد متوهجة كقرص الشمس، لعلاقة إقامة المسلات بعبادة الشمس.
وعلى الرغم من وجود مسلات أيضاً في حضارات أخرى كالأمازيغية، والحبشية، والأشورية، والرومانية، فإنها لا ترقى لبهاء وفخامة مسلات مصر.
وكما ذكرنا من قبل، إن سرقة ونهب الأثار والمقتنيات الفرعونية تمت حتى في زمن الفراعنة أنفسهم، وبالطبع استمرت هذه الهجمة بعد قدوم غزاة الوطن، فهم أتوا لاحتلال البلاد والسيطرة عليها ونهب كنوزها. وبدأت هجرة المسلات من مصر إلى الخارج قبل الميلاد، حيث تشير المصادر المكتوبة إلى أن آشور بانيبال (“Ashurbanipal “؛ 687-627 ق.م) آخر ملوك آشور (وحائز لقب ملك العالم) بعد غزوه لمصر سنة 665 ق.م قام بنقل مسلتين من مسلات أون (عين شمس)، لإقامتهما في مدينة “نينوى” (Nineveh) عاصمة مملكتهم الجديدة حيث أقامهما في الميدان الكبير المواجه لقصره الذي يتوسط العاصمة، والتي دأب على أن ينقل إليها أغلى التحف والجواهر من ثروات الأمم التي يغزوها. والمسلتان يبلغ ارتفاع كل منهما 15.24 مترا صنعت من كتلة واحدة من الجرانيت الوردي، وكانت تكسو قمة كل منها الواح من معدن الالكتروم البراق.
اختفاء المسلات المصرية
ولم يكتفى الغزاة بسرقة المسلات، لكن ربما حقد بعضهم دفعه لتدمير عديد منها، كما يذكر بعض المؤرخين ما قام به “قمبيز بن قورش” (قمبيز الثاني ملك الأخمينيين الفُرس؛ Cambyses II؛ حكم 530 ق.م – 522 ق.م)، والذي استولى على مصر سنة 525 ق.م، وقام بتدمير عديد من الأثار المصرية ومنها المسلات، فهناك اثنتان منهما أتلفتا إتلافا تاما كما يروى لنا “هيرودوت” (Herodotus؛ حوالي 484 ق.م – 425 ق.م) المؤرخ اليوناني الأشهر. وروى أيضا “ديودور الصقلي” (Diodorus Siculus؛ تقريبا 90 ق.م – 30 ق.م) أن “قمبيز الثاني” حمل إلى فارس قرصا كبيرا من الذهب من مقبرة “أوزمانديس” في الرامسيوم حيث كان مدون عليها أيام السنة كلها ومعلومات بخصوص ظهور واختفاء النجوم.
أما النهب المنظم للأثار، فما فتئ أن يتوقف، فمسلسل اختفاء المسلات المصرية مستمرا في عصور لاحقة مختلفة، لتظهر بعدها في عواصم العالم الأخرى، وكان في مصر ما لا يقل عن مئة مسلة لم يتبق منها سوى 7 مسلات حاليا. ونسرد بإذن الله قصة تهريب المسلات المصرية في الحلقة القادمة.
دكتور قاسم زكى؛
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
وعضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر