مقالات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (1) … أطول إمبراطورية وأطول مستعمرة

يعتبر تاريخ «مِصر القديمة» الجزءَ الأهم من تاريخ الإنسانية؛ فبالعودة لبدايتها، نجد أن العالم كان في أقصى ظلامه وتشتُّته عندما أشرقت أنوار تلك الحضارة بوادي النيل. فكان شعبها أول من استأنس الحيوان وامتَهن الزراعة، وأقام نظامًا اجتماعيًّا برئاسة الكهنة وأهل الدين، يؤسِّس لإمبراطورية عظيمة لاحقة على يد الملك «مينا» مُوحد القُطرين. وعندما ازدهرَت العلومُ والفنونُ كان لا بد من طريقةٍ لتوثيقها؛ فاخترع المصريُّ القديم الكتابة، وجعل حتى معابده ومقابره ومسلاته ككتب كبيرة من الحجر سجل على صفحاتها بالحفر كل معارفه وتاريخه لتبق سرمدية تحكى سَبَقَه وتميزه في كافة علوم المعرفة لجميع الأجيال التالية. ونتاجَ إيمانه بالبعث وخشيته العذاب قام ببناء ونحت المقابر (وربما الأهرامات) ليحفظ الموتى في تلك القبور الهائلة دون أن تصلها يد العبث، واستخدم علوم الكيمياء والطبيعة في تنفيذ ذلك، وأبهر العالم بمعماره. وبالرغم من وقوع هذه الحضارة الغنية تحت طائلة الغزو عقود طوال؛ فإن نورها لم يَخْبُ، حتى أجلى «عمرو بن العاص» الرومَ عن أرضها (سنة 20 هـ الموافق لعام 641م)، وأُسدِل الستارُ على «مِصر القديمة» كما عرفها التاريخ.

لذا فمصر دولة ذات حضارة عريقة، تشهد أثارها الباقية على عظمتها السابقة، فكانت ذات مؤسسات في الحكم والاجتماع تعد أقدم ما عرفه التاريخ. وتمثل حضارة مصر المخزون الاستراتيجي لتاريخ البشرية، فهي أقدم حضارة عرفها تاريخ الإنسانية، واشتهرت مصر في عصر المصريين القدماء (الفراعنة) العظام بالثراء والاستقرار بين دول العالم القديم. وعرفت بعظمة وشهرة حكامها، وهؤلاء نعرفهم بأسمائهم وسماتهم وبعض كنوزهم منتشرة في كافة متاحف الأرض حاليا، فمن يجهل رمسيس الثاني أو توت عنخ أمون. ورغم عمليات السطو والتخريب قديما وحديثا فقد بقي الكثير من أثارهم ولدينا من النقوش والبرديات ما يصف حياتهم اليومية، ورغم أن ما نهب كان أعظم، إلا أن ما بقي من أثار هذه المدنية القديمة – أقدم المدنيات عمرا- يعتبر كافيا للدارسين والمشاهدين.

وفى عمر الزمن تعد مصر أطول إمبراطورية مستقلة في تاريخ البشرية جمعاء (منذ توحيد الملك “مينا” للقطرين البحري والقبلي عام 3200 ق.م. والي بداية الاحتلال الإغريقي 332 ق.م)، مع استثناءات عابرة لم تغير مجرى التاريخ المصري. وكذا أشد المفارقات غرابة أن مصر هي أيضا أطول مستعمرة في التاريخ (منذ 332 ق.م إلى 1952م، مع انطلاق ثورة يوليو 1952م). ولعل الفترة الثانية (فترة الاستعمار) هي التي تم فيها أكبر نهب لأثار دولة في التاريخ.

إن نهب وتهريب وأيضا إتلاف الآثار المصرية لم يهدأ منذ ثلاثة آلاف سنة، سواء أكان على يد أهل مصر أنفسهم أم على يد الأجانب، وللأسف كل له حجته ومهما كانت واهية في نظرنا، وللأسف كانت خسارة علم الآثار فادحة، وأفدح منها ما فقد من تاريخ مصر المحروسة. وحاليا نلاحظ أن ما صمد من أثار مصر مبعثرا على قارات العالم، والأَدْهَى أن أجملها ما هو موجود خارجها، بعيدا عن ارض المحروسة. وتقدر الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية القيمة المادية للأثار المصرية المهربة في الخارج بنحو ‏3‏ تريليونات دولار أمريكي‏.‏

ونستكمل قصتنا الأسبوع القادم إن كان هناك في العمر بقية.

دكتور قاسم زكى؛

 أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا

وعضو اتحاد الأثريين المصريين وعضو اتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى