مقالات

الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (43): هنري سولت (الدبلوماسي الذي هرّب حضارة مصر إلى أوروبا)

في الحلقة الجديدة من سلسلة المقالات التي تتحدث عن تهريب الآثار المصصرية، نتناول قثة منافس دروفيتي اللدود في نهب أثار مصر، المدعو هنري سولت Henry Salt) ؛ 14 يونيه 1780م- 30 أكتوبر 1827م)، كان شخصية بارزة في عالم الاستكشاف الأثري المصري في القرن التاسع عشر. اشتهر بدوره في جمع الآثار المصرية القديمة وبيعها لمتاحف أوروبية مختلفة، مما أثر بشكل كبير على فهمنا للحضارة المصرية القديمة. وهنري سولت شخصية مثيرة للجدل أيضا في تاريخ الاستكشاف الأثري المصري، فمن ناحية، يُعتبر شخصية مهمة في زيادة الاهتمام بالحضارة المصرية، ومن ناحية أخرى، يُنتقد لقيامه بتهريب الآثار المصرية. يبقى سؤاله مفتوحًا: هل كان سولت صائد آثار أم عالمًا؟

من هو هنري سولت؟

هو فنان ورحالة ودبلوماسي وعالم مصريات، لم يكن سولت مجرد جامع آثار، بل كان فنانًا موهوبًا، ورحالة شغوفًا، ودبلوماسيًا ماهرًا، وعالم مصريات متعطشًا للمعرفة.  شغل منصب القنصل العام لبريطانيا في مصر في الفترة ما بين 1815م و1827م، مما منحه موقعًا متميزًا للوصول إلى الآثار المصرية. واستغل سولت موقعه وسلطته لجمع كميات هائلة من الآثار المصرية، والتي شملت تماثيل، ولوحات جدارية، وأواني فخارية، ومجوهرات، وأجزاء من المقابر. بعد جمع كل تلك الآثار، قام ببيعها لمتاحف أوروبية مختلفة، مثل المتحف البريطاني ومتحف اللوفر، مما زاد من شهرته وثروته.

اقتسام تراث وآثار مصر:

وكان القنصل الفرنسي “دروفيتي” عدوه اللدود ينشر أعوانه في كل القطر المصري يفتش وينبش كل شبر فيها في سباق محموم مع القنصل الإنجليزي “سولت” الذي يعمل لحسابه المغامر الإيطالي “بيلزوني”.  وكما أوضحنا سابقا أن اللص الفرنسي المتخفي خلف الحصانة الدبلوماسية المدعو ” دروفيتي ” ينافس خصمه اللدود سولت. ولكن نجد سولت الإنجليزي هذا يعقد معه اتفاقا مكتوبا لتقسيم مناطق النفوذ لنهب الأثار المصرية وينص الاتفاق أن تكون للص “”دروفيتي” الفرنسي أثار الضفة الشرقية لنهر النيل، وللص “سولت” الإنجليزي أثار الضفة الغربية للنيل ينقب كل منهما في منطقته بحثا عن الأثار التي تُباع بالذهب.

إنجازات سولت وأعماله:

اكتشف سولت العديد من الآثار الهامة، من بينها رأس الملك رمسيس الثاني الضخمة (ممنون الصغير) ، والتي تعتبر الآن من أهم القطع الأثرية في المتحف البريطاني. وكان اكتشافها على يد المغامر الإيطالي “بيلزوني” ونقلاها الى المتحف البريطاني. وقام سولت بتمويل العديد من الحفريات الأثرية في مصر، مما ساهم في الكشف عن العديد من الأسرار المدفونة وكان ما يميزه قيامه بتوثيق الآثار التي اكتشفها من خلال الرسومات والصور، مما ساهم في حفظها ونشر المعرفة عنها.

الجدل حول سولت:

اُنتُقد سولت بشدة لقيامه بتهريب الآثار المصرية إلى خارج البلاد، مما أدى إلى فقدان مصر لجزء كبير من تراثها الثقافي، وللأسف كان الدافع الرئيسي لسولت هو الربح المادي، حيث كان يبيع الآثار بأعلى الأسعار.  لكن يحسب للرجل انه ساهم في زيادة الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة في أوروبا، مما أدى إلى دراستها بشكل أكثر عمقًا. ولعب سولت دورًا مهمًا في تأسيس علم المصريات كعلم أكاديمي. لكن أثار سولت نقاشًا مستمرًا حول الأخلاقيات في مجال جمع الآثار، وضرورة حماية التراث الثقافي.

اخترنا لك : الدكتور قاسم ذكي يكتب عن تهريب الآثار المصرية (42): بيلزوني (كيف سرق النبّاش الكبير آثار مصر وباعها للعالم؟)

مقارنة بين دور هنري سولت وبرناردينو دروفيتي في استكشاف الآثار المصرية:

هنري سولت وبرناردينو دروفيتي هما شخصيتان بارزتان في تاريخ استكشاف الآثار المصرية في القرن التاسع عشر. وكلاهما ترك بصمة عميقة على فهمنا للحضارة المصرية القديمة، إلا أنهما اتبعا مسارات مختلفة في تحقيق أهدافهما.

كان هناك نقاط مشتركة بينهما، فكان الهدف الرئيسي لكليهما هو جمع أكبر قدر ممكن من الآثار المصرية القديمة. كان الربح المادي أحد الدوافع الرئيسية لكليهما، حيث قاما ببيع الآثار التي جمعاها لمتاحف أوروبية.  استغلا موقعيهما كدبلوماسيين للحصول على امتيازات خاصة في مصر، مما سهل لهما عملية جمع الآثار. وتعرض كلاهما لانتقادات واسعة بسبب تهريبهما للآثار المصرية إلى خارج البلاد، مما أدى إلى فقدان مصر لجزء كبير من تراثها الثقافي.

لكن هناك اختلافات بينهما؛ فسولت كان أكثر اهتمامًا بتوثيق الآثار التي اكتشفها من خلال الرسومات والصور، بينما كان دروفيتي أكثر تركيزًا على جمع أكبر عدد ممكن من القطع الأثرية.  كان دروفيتي يتمتع بمنصب أعلى من سولت، حيث كان قنصلًا عامًا، مما منحه نفوذًا أكبر في مصر. وساهم سولت بشكل أكبر في تأسيس علم المصريات كعلم أكاديمي، وذلك بسبب اهتمامه بتوثيق الآثار ودراستها.

وخلاصة القول إن كليهما ساهم في زيادة الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة في أوروبا، مما أدى إلى دراستها بشكل أكثر عمقًا. لكنهما تسببا في فقدان مصر لجزء كبير من تراثها الثقافي، وأثرا سلبًا على الحفاظ على الآثار المصرية في مواقعها الأصلية.

لكن النقاش مستمر:

يظل دور كل من سولت ودروفيتي مثيرًا للجدل حتى يومنا هذا. فمن ناحية، يُعتبران شخصيتين مهمتين في تاريخ الاستكشاف الأثري المصري، ومن ناحية أخرى، يُنتقدان لقيامهما بتهريب الآثار المصرية.

ختامًا، سولت ودروفيتي هما مثالان على الجانبين المضيء والمظلم للاستكشاف الأثري في القرن التاسع عشر. ورغم أهمية إسهاماتهما في زيادة الاهتمام بالحضارة المصرية، إلا أن أفعالهما أثارت العديد من الأسئلة حول الأخلاقيات في مجال الاستكشاف الأثري.

وأخيرا النهاية:

هنري سولت، تلك الشخصية البارزة في عالم الاستكشاف الأثري المصري، رحل عن عالمنا في 30 أكتوبر 1827م، عن عمر يناهز 47 عامًا. توفي في مدينة دسوق المصرية، بعد مسيرة حافلة بالإنجازات والاكتشافات، والتي تركت بصمة عميقة في تاريخ علم المصريات. السبب الرئيسي لوفاة سولت كان الإصابة بمرض الجدري، وهو مرض معدٍ كان شائعًا في ذلك الوقت. وقد تفاقمت حالته الصحية بسبب ظروف العمل الشاقة والتنقل المستمر بين مصر وأوروبا. دُفن هنري سولت في حديقة منزله في الإسكندرية، والتي تحولت فيما بعد إلى مقبرة أوروبية.

د. قاسم زكي
أستاذ الوراثة – كلية الزراعة – جامعة المنيا
عضو اتحاد الأثريين المصريين – عضو اتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى